ثقافة وأدب

محمود يعقوب

قصة قصيرة.. أتفهمنـــي؟

14/03/2023 18:29
   إذا قرأت نصّاً من نصوص ( وليام بوروز )* ، فلا بأس من أن تغطّي وجهك من فرط الحياء ؛ هذا ليس من باب النقد والتجريح ، بل هو الحقيقة العارية . هكذا هم جيل القاع الأمريكي جميعاً ، قراءة كتاباتهم أشبه بالسير بين الألغام. زجّ (  بوروز )  في أعماله الكثير من الكتابة عن المؤخرات ، وقد تحدّث في هذا الصدد  على نحو فاضح وصريح  ، من دون أن يتلكأ أو يحذر من شيء ؛ بل يمكنني القول أنه تمادى في إشاراته الفظّة ، وتلميحاته الجسيمة.                                                                             كتب في موضع يقول: "هل حدثتكم يوماً عن الرجل الذي علّمَ مؤخرته الكلام ؟ كان بطنه يتحرك صعوداً ونزولاً ، أتفهمني ؟ ضارطاً الكلمات ، لم أرَ ذلك مطلقاً في حياتي . كلام تلك المؤخرة كان نوعاً من تردّد في الأحشاء ، تردّد يدفعك للذهاب إلى الغائط ، كأن أمعاءك تضربك في الأسفل ، فتحسّ ببرودة ما تدفعك إلى الإسهال . ذلك الصوت السميك ، الراكد ، ذو الرائحة.                          عمل الرجل في كرنفال ، أتفهمني ؟ في البدء كان عرضه للدمى الناطقة طريفاً ومضحكاً ، عرض من عروضه " الأفضل " كان مضحكاً للغاية ؛ لقد نسيت معظمه ، لكنه كان ذكياً ، مثل   " ما زلت هناك أيها الشيء الطاعن في السنّ ؟ " ، " لا ، كان عليّ أن أقضي حاجتي".                      بعد مدّة من الزمن ، بدأت مؤخرة الرجل بالحديث من تلقاء نفسها.                                               كان الرجل يبدأ عرضه بالتكلم دونما إعداد ، وكانت مؤخرته تتكلم وتجيب خارجة عن أي نص مكتوب ، وهي ترتجل الكلام . وفي كل مرّة كانت تسخر منه ". " ثم نَمّت المؤخرة نوعاً من السنانير الصغيرة المعقوفة ، التي تشبه الأسنان ، وبدأت في تناول الطعام . في بادئ الأمر ، ظن الرجل الأمر لطيفاً ، وأنشأ حوله عرضاً ، لكن المؤخرة مزّقت سرواله ، وبدأت تتكلم في الشارع ، صارخة أنها تريد مساواة في الحقوق ! . كما أنها صارت تخمر ، وتصرخ في نوبات من البكاء أن أحداً لا يحبها ، وإنها تريد أن يتم تقبيلها ، تماماً مثل أي فم آخر.                                                               أخيراً تحدّثت المؤخرة ، بلا انقطاع ، ليلاً ونهاراً . أمكنك سماع الرجل يصرخ فيها أن تخرس ؛ يضربها بقبضته ، يغرس الشمع فيها ، لكن من دون جدوى . قالت له المؤخرة " أنت من سيخرس في النهاية ، ليس أنا ، لأننا لا نحتاج إليك هنا أكثر ، يمكنني أن أتكلّم ، وآكل ، وأخرأ".                                          على الرغم من أن ( وليام بوروز ) مضى قُدماً وهو يصف ما آل َ إليه أمر الرجل ، وكيف أنه أغلق فمه في نهاية المطاف ، ولم يعد بوسعه قول شيء ، " وكاد رأسه يستأصل بالكامل عفوياً " ؛ إلّا أنه لم يعرض لحال المؤخرة ، بعد تمرّدها ، وتحرّرها من محبسها. ◘◘◘
في ٢ أغسطس من عام ١٩٩٧ نجح ( بوروز ) في أن يموت.                                     لقد فعلها هذه المرّة ، أكثر من المرّات السابقة ، فأغمض عينيه ، وأسبل يديه ، ولم يعد يتنفّس ، أو يشتم روائح الماريجوانا ، أو الحشيش المكسيكي ؛ حتّى إن أخبار تلك المؤخرات ، التي شغلته كثيراً ، غابت عن وعيه .    اعتاد ( بوروز ) ، في نصوصه ، أن يختم الفقرة ، التي حدّدها ، بنقطة ، من غير أن يعود إليها ثانية ، في عمل بعيد عن التكاسل والإهمال . إن ما قام بتحديده هو كافٍ لتوقّع ما سوف تؤول إليه الأمور . وبالنسبة لي ، فإن ما يختفي خلف كلماته ، وما بين سطوره ، قادرٍ على أن يشرح لي الكثير؛ وأحسب أن الأمر كذلك بالنسبة لأغلب قرّائه المخلصين . ولهذا السبب لم يشغل الكاتب فكره في محاولة الإسهاب ، في كتابة ما سوف تؤول إليه حال تلك المؤخرة النزقة ، التي شقّت عصا الطاعة بإصرار وعناد.                                                            إن تلك المؤخرة الرائدة ، وعقب تحرّرها ، وانزلاقها خارج حمى الأسر ، أعلنت لفورها أنها رسول من رسل الحرية والثقافة الإنسانية ، في عصر ما بعد الحداثة ، وانطلقت من مهدها تنشد الأناشيد التي تحضّ وتؤلب المؤخرات جميعاً على الانعتاق . ، راحت تعتلي المنصات  ضارطة الأشعار أبياتاً تلو الأبيات ، من قصائد حماسية بين جماهير غفيرة ، تلهب الدنيا بالصفير والتصفيق . بينما صورها تُغرق صفحات التواصل ، وتضيق بها قنوات التلفزة الحديثة.    لعل بريق الألق الذي أحاطت بها نفسها ، قد أغرى الآلاف االمؤلفة من المؤخرات ، وزيّن لها عالم الانطلاق . في غفلة من التاريخ ، صارت تملأ المقاهي ، والصالونات بدخان سجائرها ، وتزين الحدائق والمتنزهات بهمسها وكركراتها ، وأترعت الميادين ببهجتها . وأسرعت تمضي متبخترة إلى المنتديات . وسرعان ما دلفت عالم السياسة ، وهي تطالب الجميع أن يمحضوها كامل ثقتهم .  أخذت تعمل بطاقة مذهلة ، ولربما كان سرّ تلك الطاقة هو الآمال التي تحدو بها لقطف ثمار رغباتها الصريحة ، والغامضة أيضاً.                             جيوش من المؤخرات الذكرية والأنثوية أمست تدلي بآرائها ، وتعلن عن أفكارها في كل موقع ومكان ، وتنشغل مليّاً بكتابة الخطابات الحماسية ، والتغنّي بشعارات من مثل : " ارفع ذراعك أعلى وأعلى يا تمثال الحرية " ، ومثل : " في كل مكان ستتشابك الفتاة مع الفتاة ، والفتى مع الفتى".         لم يكتب عن ذلك ( وليام بوروز ) ، ولكنه كان يعرف كل شيء ، أتفهمني؟..                                                                           لم تكن هذه المؤخرات صبورة ، كانت تقف متململة ، تمدّ أعناقها متشمّمة كأنها خيول في الإسطبل . تترقّب الانطلاق بأقرب فرصة ، ولم يطل بها المقام حتّى اندفعت تنشد السلطة والقيادة ، تريد تغيير العالم ونظمه..                                                                بدا الأمر وكأنه ليس من قبيل الصدفة ، أتفهمني؟..     ◘◘◘    أتكهّن أن يستيقظ ( بوروز ) في مضجعه ذات يوم . سوف يصحو من نومه ، كما لو أنه الشيطان : بوجهه المهدود ، وعينيه العصبيتين ، وفيض السخرية الذي يتساقط من بين شفتيه المطبقتين . سيعود من موته هادئاً ، مُعافى ، كما كان يعود من الحجر الصحي كل مرّة . سوف يفغر فمه في عجب ما بعده عجب ، ويرى بأم عينيه ما فعلته تلك المؤخرة الأولى ، التي أطلق لها العنان في كتاباته ، كيف صنعت دولاً ، وحكومات ، وأنظمة . آنئذٍ ، سوف يهرع إليها ، ويمطرها بالقبلات ، وأمام مرأى الجميع ، سيغرز في جانبها الأيسر وسام الفرسان!.                                          سيفعل ذلك ، لا من باب الاحترام والتقدير لها ، ولا من باب الإعجاب أو الاستحقاق ؛ كلا سيفعل ذلك نكاية بأخيار العالم ، وهو يراهم يقفون من دون اكتراث  ، أشبه بالعجزة ، ينظرون بعيون غارقة بالكسل  لضياع العالم الجميل من بين أيديهم ، ومن غير أن يحرّك أحد منهم ساكناً ... إنه يعلم جيداً إلى أين تمضي تلك المؤخرات ، وما الذي تريده حقّاً ، فهو ، ورهطه من جيل القاع ، طالما هبطوا على الجانب المظلم من سطح القمر ، أتفهمني؟.
*  : وليام بوروز ( ١٩١٤ ـ ١٩٩٧ ) ، كاتب أمريكي ، وفنان بصري ، ومؤلف ما بعد حداثة رئيسي ، وأحد الشخصيات الرئيسية التي انتمت لجيل البيت ( القاع ) الأمريكي . أثرت مؤلفات ما بعد الحداثة لبوروز على الثقافة الشعبية والأدب في العالم ، وأمريكا على وجه الخصوص. 



مشاهدة الموقع بالنسخة العادية