في البداية لا بُدّ من تقديم العُذر للقارىء الكريم، فالأخير قد إعتاد مني أن أكتب مقالات تَعرضُ وتُحَلّل في تاريخ العراق المعاصر، مع حضور واضحٍ للمصادر في الحواشي. أما اليوم فسيجد شيئاً جديداً مُخالفاً للمألوف! سأتحدث عن "تجربتي الشخصية" مع بعض الأصدقاء في عالم التواصل الإجتماعي "الفيسبوك".
صَرّحَ أحد الأصدقاء في الفيسبوك قبل أيام، بأني أقوم بـ"تزوير" تاريخ العراق! ليقولها صراحة: تركيز الناس على تفاهات التواصل الإجتماعي، أفضل من قراءة كتاباتك المُزَوّرة!.
لا بأس، فنحن نحترم "الرأي الآخر"، لكن بـ"شرطه وشروطه". فإن كان فاقداً للأخيرة، فلن يكون رأياً آخر، بل سيكون نوعاً من المساجلة والسفسطة، وهذا ما نُعرِضُ عنه بكل تأكيد.
الصديق أعلاه "ملكي متعصب"، يعتبر ما حدث في 14 تموز 1958 كارثة حَلّت بالعراق وأدخلته في نفق مظلم لم يخرج منه لحد الآن.
طَيّب، لكن لماذا حدث ذلك؟ لماذا قام "إنقلاب" 14 تموز؟ هل بحث هذا الصديق عن "الظروف الموضوعية" التي أدّت له؟ هل حفر ونَقّبَ في البُنية التحتية ـ إن أردنا إستخدام المعجم الماركسي ـ التي جعلت هذا النظام يتهاوى كبيتٍ من الورق؟! فالسؤال الأمثل في التاريخ هو: لماذا حدث؟ وليس: ماذا حدث؟.
لا وجود لإجابة دقيقة من هؤلاء المحترمين! فقد خبرتهم بنفسي، يكتفون بالكلام والضجيج بعيداً عن المصادر والتَثَبّت!.
لا زلتُ أتذكر النقاش = السجال، الذي دار بيني وبينه. قال مرة عن العُقداء الأربعة [صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمود سلمان، كامل شبيب] باللهجة العراقية الدارجة:
هذوله لعبوا طوبه بالعراق!، المقصود بانهم قد دَمّروا العراق ولعبوا به كما يلعبون بكُرة القدم.
قُلت له: هل تعلم بأن نوري السعيد قد إستعملهم وإستغلهم؟ هل تعلم بأنه قد وصل لرئاسة الحكومة في عام 1938 على أكتافهم؟! أحجم الصديق وإنسحب بهدوء!.
أرى من المفيد الآن الإستشهاد بشخصٍ آخر "ملكي الميول". حالة هذا الشخص عجيبة غريبة بشكل يجعل الحالة الأولى لا قيمة لها قياساً به!. فهو أستاذ جامعي وحامل للدكتوراة في التاريخ الحديث، ويعمل أستاذاً في إحدى جامعات العاصمة بغداد.
كتبتُ نصاً يُدين الملكيين بوضوح، إذ لم يؤسس يوم 14 تموز لتدخل الجيش في السياسة، فقد تدخل الأخير فيها مبكراً في عام 1936، بل إن نوري السعيد نفسه هو من ركب هذه الموجة ليحترق بنارها أخيراً في 1958.
عَلّقَ هذا الأستاذ الجامعي المحترم قائلاً:
ما هذه المغالطات؟! ما هذا الكذب؟!. فأجبته بهدوء:
مصادري حاضرة وبقوة! وهي: ستيفن همسلي لونكرك ومترجمه سليم طه التكريتي، العقيد جيرالد دي غوري، سندرسن باشا طبيب العائلة المالكة في العراق. ولم أقف هنا، بل عَزّزت رأيي بالرجوع الى السيد عبد الرزاق الحسني.
إنسحب هذا الأستاذ الجامعي من النقاش، وختم كلامه باستحياء: هذه المرحلة ـ الثلاثينات ـ كانت قلقة، وهي مرحلة تدخل الجيش في السياسة!!.
مشكلة الملكيين كما خبرتهم هي: اللف والدوران من أجل تشتيت الموضوع والتظاهر بالنجاح في النقاش، وما أبعدهم عن ذلك. أقول بهذا بعيداً عن النرجسية واستعراض العضلات.
فإن كان الإعتماد على: الحسني وكمال مظهر أحمد وبيتر سلغليت ولونكرك وحنّا بطاطو وجرجيس فتح الله وفيبي مار وآيرلاند.. الخ يُعَدُ تزويراً، فأنا أول المُزَوّرين!!!.
***
بقلم: معاذ محمد رمضان
تعليقات (1)
عبدالخالق حسين
23 minutes ago
#172292
شكراً جزيلاً أستاذ معاذ محمد رمضان على هذا المقال القيم، المختصر المفيد والمكثف. المشكلة مع أنصار الملكية أنهم يرفضون لغة المنطق والظروف الموضوعية التي جعلت ثورة تموز حتمية تاريخية. وأنا دخلت معهم في مجادلات لثلاثة عقود ففشلت بسبب تعصبهم، وجهلهم بمنطق التاريخ. فهم يلقون اللوم على الثورة وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم، في كل جرائم حكم البعث الصدامي. وحجتهم أنه يجب الحكم على الثورة بنتائجها. نسوا أو تناسوا أن الثورات لا تحدث بفرمان من أحد بل، وكما قال عالم الاجتماع الراحل علي الوردي يجب أن لا نحكم على الثورات بنتائجها، بل بأسبابها. فلو احجمت الناس عن الثورات ضد الظلم خوفاً من فشلها، لصارت البشرية كالخراف يحكمها الطغاة، ولما تطورت الحضارة. فكم من ثورات فاشلة مهدت الطريق لثورات ناجحة. وكمثال، ثورة الحسين بن علي على يزيد، فشلت، ولكنها مهدت الطريق لثورات عديدة بعدها إلى أن تم إسقاط حكم بني أمية.
وهناك مقولة تفيد: الثورات لا يمكن تفجيرها "حسب الطلب" أو بفرمان من أحد، وإنما هي نتيجة انفجار تراكمات ومظالم ومتطلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعندما تنتفي الوسائل السلمية الديمقراطية لتحقيق هذه التحولات المطلوبة، وتتوفر لها الظروف الموضوعية والعوامل الذاتية، عندئذِ يحصل التغيير بالعنف الدموي وما يصاحب ذلك من هزات عنيفة واضطرابات خطيرة في المجتمع.
وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف دروكر (Peter F. Drucker) فقال: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية".
فالعراق في العهد الملكي لم يكن مستقراً، بل كان مشحوناً بثورة، بدليل أنه بعد دقائق من إنفجارها خرجت الجماهير من أقصى العراق إلى أقصاه في تأييدها، والجماهير هي التي حولت الحدث من إنقلاب عسكري إلى ثورة. ولعل أدق شهادة بهذا الخصوص جاء من المستشرق الفرنسي المعاصر البروفيسور مكسيم رودنسون الذي قال: بأن "ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في العالم العربي"
أما مقتل العائلة المالكة فكان بتصرف شخصي من النقيب عبد الستار سبع العبوسي والذي لم يكن من الضباط الأحرار. والجدير بالذكر أن هذا الضابط انتحر في السبعينات من القرن الماضي بسبب تأنيب الضمير على فعلته تلك.
فثورة تموز كانت حتمية، والذي جعلها حتمية هو نوري السعيد و عبدالإله. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في الانتخابات البرلمانية عام 1954 فاز 11 نائباً من أحزاب المعارضة الوطنية من بين 131 نائباً. فلم يتحمل نوري السعيد هذا العدد القليل من نواب المعارضة، فقام بانقلاب القصر على زميله أرشد العمري، فعطل البرلمان، وأغلق الصحافة إلا العدد القليل منها المؤيدة له، وأعلن الحكم العرفي العسكري. هذه هي ديمقراطية العهد الملكي.
ومن يرغب في المزيد عن حتمية ثورة 14 تموز وشرعيتها، أرجو فتح الروابط التالية:
د. عبد الخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958 العراقية (الوضع قبل الثورة)
https://www.akhbaar.org/home/2020/7/273381.html
د. عبدالخالق حسين: هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة أَم انقلاب؟
http://www.akhbaar.org/home/2012/07/132954.html
رابط كتاب عبدالخالق حسين: (ثورة وزعيم) على موقع فوله بوك FoulaBook
https://foulabook.com/ar/book/pdf كتاب-ثورة-وزعيم:-ثورة-14-تموز-1958-العراقية-وعبدالكريم-قاسم-