(دروبُ الموت5) الطريق الى طهران.. بداية يأس
    الجمعة 25 يونيو / حزيران 2021 - 19:56
    قاسم محمد الكفائي
    مدينة أشنوية هي أول محطة إيرانية وطأتها قدماي، عليها يمر اللاجئون الجُدد لمراجعة مديرية الناحية بغرض تسجيل أسمائهم كلاجئين هاربين من بطش نظام صدام حسين. كان معي في القافلة من المهاجرين الجدد أبو محمد أعتقد من العمارة ومعه إبنه الصبي وزوجته وبحسب الأوامر الإيرانية التي تتعلق بالعراقيين القادمين من جهة الزيبار والمناطق التابعة الى أشنوية مراجعة مديرية هذه الناحية. إصطحبَنا اليها لأغراض الترجمة وإكمال الإجراءات الضرورية مجاهد يلقب أبو شكر، عراقي تركماني التقيناه على الطريق قبل وصولنا بأقل من أربعين ¬¬- كم – تقريبا كان ينتظرنا بسيارة بيك آب تابعة الى حزب الدعوة. الموظف الذي يأخذ الأسماء ويدونها في سجل كبير هو من القومية الكردية تحيطه زمرة من زملائه الموظفين الأكراد في نفس القسم. فلما دخل عليهم أبو شكر وأخبرهم أننا عراقيون مهاجرون جُدد، دخل معهم بسجالات لم أقف على مضمونها إنزعجوا، منه وكنت أسمع أحدَهم يردِّد إسمَ حزب الدعوة بغضب شديد، ثم طلب منا الهويات العراقية الأصلية ولما رفضتُ أنا تقديم إسمي الحقيقي إستهزىء بي الجميع بلا استثناء وكأنني نزلت عليهم من المريخ بالمقلوب. بقيت أناقش الأمر: كيف أقدم إسمي الصحيح لمثل هكذا دائرة مدنية حدودية مع بلادي وكنت أعني أن هذه الزمرة يستحيل عليها أداء مهمتها بأمانة لأن المؤسسة الأمنية العراقية لن تغفل عنها بالمطلق. كان غرضي هو الدفاع عن أخوتي المهاجرين المغدورين بهذا الإجراء حتى (قامت عليّ القيامة) بمجرد تأخرت عن تقديم هويتي لثلاثة دقائق كنت فيها أناقش الإشكال.
    أنا شخصيا كنت قد خططت لإطلاق إشاعة بوفاتي في وديان شمال العراق لكن الوضع العام من الزيبار الى أشنوية كان يجري دون مستوى الطموح. جميعُ العراقيين في الداخل الإيراني قد غيّروا أسمائهم والحقيقة هم يختبئون خلف أصابعهم حين يسألهم سائلٌ من وطنهم عن إسمهم الصريح، يُسمعونه جوابا هزليا هو أبو فلان وأبو فلانه، إلا إنني التقيت بالكثير من العراقيين في إيران وعندما أبيّن لهم هذا الإشكال كان الكثير منهم يضرب بيده على جبهته أو يعضّ على أصابعه، فما كان واحدا منهم ملتفتا لتلك الظاهرة الخطيرة. أيضا ناقشتها مع رجل الإطلاعات شهيدي فكان ردُّه: لا تخف (نه ترْس)، طالبته في حينها أن يذهب اللاجىء العراقي الجديد الى دوائر الإطلاعات بدل مديرية ناحية أشنوية وما شابهها في مناطق حدودية أخرى. كان بتقديري أن مئات العوائل في الداخل العراقي قد سُبيت وانتُهِكت بسبب هذه الخروقات (السهلة المُعقدة) تحت طاولة الأسلوب الناعم. من هذه المدينة انتقلنا فورا الى سجن في ضواحي مدينة قضاء خوي حيث التحقيق الإبتدائي هناك أجرته معي عناصر من الإطلاعات، دام مكوثي في السجن لخمسة عشر يوما تقريبا نقلوني وبصحبتي العائلة العراقية الى طهران عبر مدن ( نقدَه ومهرآباد وتبريز)، هكذا أتذكر. ذهبنا الى وزارة (كشور) الداخلية في طهران للحصول على (الليزا باص) ورقة المرور، ثم نزلتُ أنا في سجن أردوكاه كرج (مخيم اللاجئين) في مدينة كرج لغرض إجراء مرحلة أخرى من التحقيق. في الحلقة الأولى كنت قد ذكرت بأن مسؤول مقر حزب الدعوة وباقي الأخوة نصحوني مخلصين أن لا أتفوَه الى إطلاعات إيران بأمور ذكرتها لهم لأنها تجلب عليّ الضيم بما لا أتوقعه أنا المهاجر العراقي الجديد وأن أحلامي الجميلة التي في خاطري ستتبدّد. لما وصلت الى الأوردكاه في كرج حيث التحقيق العميق عن كل شاردة وواردة لم أتطرق الى ما كان في جعبتي بناء على تلك النصيحة، وبناء على الواقع العراقي المهجري السيء الذي واجهني رأيتُها على السكة الصحيحة، لكنها صارت نقمة تتبعها نقمةٌ أخرى حتى صارت حياتي جحيما وحطاما وصار الحطام حطاما آخر الى يومنا الذي نحن فيه مازلت ألعق بجراحي.
    زارني الى سجن الأوردكاه أخ وصديق ورفيق العمر في زمن غابر وليس الآن (ك.ف.ب) فاجئني بوجوده جالسا حين أنزلوني من زنزانتي الى غرفة الإطلاعات فدخلت عليه وبهت شوقا اليه. طال العناق بيننا وهنئني على سلامة الوصول، بعده وقعَت على رأسي الواقعة حين بدأ الحديث. بعضُ ما قاله بأن الدكتورفلان التقاه في طهران وأخبره بالتفاصيل التي هو سمعها مني بدوره صديقي (ك) نقلها الى وزارة الإطلاعات (هو منتسب في الإطلاعات منذ عام 1980). لما أخبرته عن الأسباب الحقيقية التي جعلتني أحجب هذه المعلومات عن المؤسسة الأمنية الإيرانية بهتَ صديقي من هذا الخبر وقال بأن الدكتور لم يخبرني بهذه الجزئية إطلاقا. بدأت أخفي الكثير من بنود (مشروع المراهقة السياسية) لأنه لا يُصدَّق ويجلب عليّ الويلات وبحسب الظرف الذي عشته عرفت نفسي غريبا بين الناس في كل شيىء وكنت أخاف أن يجتمع علي بعض جنرالات السياسة العراقية من المعارضين فيصفقون خلفي وسط الشارع وأنا كالأبله لا أعرف كيف أردّ عليهم، بالضبط هذا هو واقع العراقيين في المهجر الإيراني. بقيت أسابيع في زنزانة الأردوكاه، بعدها نقلوني الى سجن مركزي في مدينة كرج إسمه (عظيمية)، ثم نقلوني الى سجن (كوهردشت) في نفس المدينة. يبقى السجن علي ثقيلا مع إني لم أتعرض فيهما للخوف والترهيب والإستفزاز ما عدى الممارسات التي تعبر عني كسجين عليه إشكال في ظروف إستثنائية تمر بها بلادهم، (للتاريخ). لا أعتقد أني مكثت في هذين السجنين أكثر من أربعة أشهر بعدها تم نقلي الى أكبر سجن عرفته إيران والعالم إسمه (إيوين) في طهران كان الشاه بهلوي قد بناه على شكل مدينة بحيث كنت أصعد سيارة من زنزانتي الى إدارة السجن. في (إيفين) وضعوني في سجن تابع له في داخله ساحة كرة قدم كان فيه فريقان من السجناء يلعبان يشاركهما مدير السجن (السيد رضوي ذو خلق رفيع)، أوالمرشد الروحي للسجناء  (شيخ شاب يمكن لي أن أسميه جندي الإمام لما له من خلق ونقاوة في الشخصية وحسن الأداء بين السجناء). هذا القسم يعتبر منتجع سياحي بالنسبة للأقسام الأخرى يمكن أن نسميه بالمعنى الأدق (منتجع المصالحة والتوابين) من الذين تعاونوا مع إدارة السجن أثناء التحقيقات، فكانت علاقة الكثير منهم مع مديرالقسم السيد رضوي ترقى الى الثقة وأراه مهتما بهم بدوافع وطنية وحرص كبير. كان يمنح الكثير منهم إجازات عائلية، وكان يأمهم في الصلاة كل يوم أو يشاركهم كل ليلة جمعة مراسيم دعاء كميل وفي المناسبات الدينية كافة من مواليد الى وفيات الرسول والأئمة ع، ومراسم عاشوراء، كلها تُقام في حسينية السجن الكبرى المجهزة باللوازم الضرورية. عرفت من خلال بعضهم أن زعيم حزب توده كيا نوري معتقل في قاطع رقم 2 المجاور لنا، كذلك إحسان طبري مفكر تودة.
    أما أنا فوجودي في هذا القسم ليس له علاقة بوضع السجناء الإيرانيين الإداري والسياسي سوى أنه مكافئة اعتبارية كما عرفته من سياق التعامل معي. مرة أساء لي أحد الحراس فشكوته الى الإدارة ووبخوه. لم يكن السجناء في هذا المكان بمأمن تماما من أي إجراء قاهر قد يصدر من إدارة السجن بحق أحدهم عندما لا يكون جادا في توبته وإصلاحه، عسيرا عليهم. بعد قضاء مدة طويلة في هذا القسم نقلوني الى قاطع آخر في غرفة صغيرة إنفرادي لأكثر من أربعة أشهر كنت فيها أعيش الأمرّين بمضاعفة حالة الإحباط الذي انتابني وكأنني سقطت من المريخ على الأرض. في يوم من أيام الإنفرادي شعرت بآلام في ضرسي ، شكوت حالتي الى السجان فنقلوني الى طبيب الأسنان وهو سجين مثلي، أطلعته على حالتي فأخذني وأجلسني على الكرسي، زرقني إبره - بنج -.في منطقة الضرس –الطواحن- العلوية وأحضر أدوات القلع ولما اعترضت على عملية القلع وطالبته بالمعالجة أجابني أن ليس عنده معالجه سوى القلع. كنت في تلك السنه ما بعد منتصف العام 1986 شابا قويا وأسناني أصحاء، فالإشكال في ضرسي هو بسبب ظروف الإعتقال كان بسيطا لا يستدعي القلع. في كل الأحوال عرفت جيدا وبالمطلق أنني أنا العراقي ليس لي قيمة عند الإيرانيين ولم أكن في نظرهم سوى نكرة. حفظت هذا التقييم المؤكَّد وبنيت عليه فهما آخر وسلوكا جديدا يتناسب ووضعي القائم وقد تأكد هذا الفهم أضعافا بعد إطلاق سراحي لأجد نفسي وأجد العراقيين هم أرخص سلعة معروضة في البازار الإيراني، (يستحقونها).
    في يوم من أيام سجني أخذتني سيارة السجن الى الإدارة قسم (بخش آزادي) ،أي قسم الحرية. بعد إجراء اللازم أطلق سراحي وسلمني مبلغا (تومانات) لا يتجاوز مقدار دولارين كأنها (قيمة موقفي من الثورة الإيرانية وصراعي المميت من أجلها مع نظام صدام حسين وقيمة فراق أولادي الثمانية وغربتي وسجني وإهانتي، وقيمة ضياع مستقبل العائلة تماما) فأدلني أحدُهم على الشارع العام وأدلني على عنوان المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بطهران. يسمونه (آزادي) حر طليق، لكنه في الحقيقة سجن بوجه آخر وظروف أخطر. حين خرجتُ من سجن (إيوين) وقفتُ على الشارع العام أنتظر سيارة أجرة تنقلني الى مقر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بحسب توجيه موظف في إدارة السجن. رفعت يدي لسيارة أجرة مرت علي فتوقفت، سألت السائق (عنصر يعمل لإطلاعات كان مروره في الشارع مدروسا) عن إسم المنطقة ومقر المجلس نصحني بالصعود لكن مظهري الرَث وعلى غيرطبيعته لفت له نظره، بجامة ممزقة وشعر طويل ولحية كثة وكأنني (داعش) ذاك الزمان. وصلتُ مقر المجلس ودخلت على مدير مكتب السيد محمد باقر الحكيم رحمه الله، لما عرضت عليه قصتي بإشارة سريعة بادرني بحل أرّقَ مشاعري وأضاف على حزني حزنا حين قال... (تفضلوا سيدنه وشاركوا في الجبهة). أنا متأكد حين نطقها كان متخوما هو وعائلته، وقد وصل به البذخ أن نسيَ خلق الله.
    في هذه المرحلة بقيت أحسب خطواتي وأحسب أنفاس رجل الإطلاعات لو صادفني كون الوضع حرج وخطير الى الحد الذي لا أسمح لنفسي فيه بالغفلة أو أقنعها أنني في مأمن. كان توجسي وخوفي من أمر واحد هو إعادتي مخفورا الى العراق، ما عداه فأنا بخير مهما عظُمت المصائب. كنتُ أرى العراقيين كيف يعيشون فلم أجد في (عقولهم) من رمق لعبور الأزمة في ذلك الوضع المتأزم البائس بسبب هشاشة المؤسسات العراقية المعارضة لنظام صدام سياسيا وماليا.
    خرجتُ منه والتحقت بأوردكاه كرج كي أكون تحت أنظار الإطلاعات وهي حكمة العارف. بقيت أعيش على فتات القصعة حين نقف عليها طابورا طويلا كل يوم، نأكلها بشيء من الذلة والمهانة. في هذه المرحلة كنت أخطط للخروج نهائيا من جمهورية إيران الإسلامية بعد قناعات وحسابات عسيرة، وكنت عارفا بخطورة هذا الموقف خصوصا عندما تكون وجهتي الى الباكستان أو الهند. نزلتُ عشرات المرات الى مدينة طهران بحثا عن أي فرصة تعينني على الخروج، فكانت محاولاتي غير موفقة ولا ترقى الى الأدنى مما كنت أتوقعه. الى حلقةٍ سادسةٍ قادمة.

    قاسم محمد الكفائي Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media