مقالات

د. عقيل عباس

بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (5 من 5)

05/04/2022 06:41
كانت الثلاثينات بداية النهاية لقصة اليهود في العراق، إذ شهد ذلك العقد، المعروف بعقد التراجع الديموقراطي عالمياً، صعود النسخة المتطرفة للقومية العربية في المشرق عموماً والعراق خصوصاً. كان هذا الصعود محفزاً جزئياً بنجاح التجارب النازية والفاشية والأتاتوركية، كحركات قومية متشددة حاكمة أعادت صياغة مشهد الحياة في بلدانها لمصلحة مركزية الدولة القومية والولاء الشعبي الصارم لها. كان الجزء الآخر مرتبطاً بالقضية الفلسطينية التي ازدادت تعقيداً في ذلك العقد مع ازدياد هجرة اليهود الأوروبيين الهاربين من الاضطهاد النازي إلى فلسطين واندلاع ما عُرف بـ"الثورة العربية الكبرى" في فلسطين بين عامي 1936 - 1939، وهي حراك فلسطيني واسع شمل إضرابات واحتجاجات سلمية وهجمات مسلحة ضد سلطات الانتداب البريطانية والتجمعات اليهودية، احتجاجاً على تصاعد هجرة اليهود إلى فلسطين وبيع الأراضي لهم. تعاطف العراقيون، حكومةً وجمهوراً، مع هذا الحراك، وأرسلوا متطوعين وأسلحة وأموالاً إلى فلسطين لدعمه.
في خريف 1939 فوجئت الحكومة العراقية بوصول أحد أكبر زعماء الحراك الذي انتهى فاشلاً قبل ذلك بأشهر، قادماً من لبنان. كان ذلك الحاج أمين الحسيني، الزعيم الفلسطيني الأهم وقتها، والأكثر تشدداً وصداميةً في التعاطي مع الخصوم، بريطانيين، أو صهاينة أو فلسطينيين. في أشهره العراقية التي قاربت العشرين، ساهم الحسيني، مفتي القدس ورجل الدين التقليدي، في دفع البلاد نحو مسارات التشدد والصراع، بضمنها التحريض العام ضد اليهود، عراقيين وغيرهم، وتضييع الفارق بينهم وبين الصهيونية. كان الرجل، القوي الإرادة والشديد الإيمان بقضيته، ذا حضور كاريزمي طاغ، وقع تحت تأثيره ساسة وعسكريون عراقيون، بينهم الضباط الأربعة، وخصوصاً صلاح الدين الصباغ، المعروفون بـ"المربع الذهبي" الذين أطاحوا الملكية في انقلاب عسكري في 1941 حرض عليه ودعمه الحسيني بقوة في إطار ما سُمّي بحركة رشيد عالي الكيلاني.
أعقب نهاية هذه الحركة وهروب قادتها مباشرةً عمليات قتل ونهب فظيعة ضد اليهود العراقيين في بغداد استمرت يومين، 1 - 2 حزيران (يونيو)، عُرفت عراقياً باسم "فرهود اليهود". كان الأول من حزيران 1941، يوم خلو البلد من سلطة حاكمة، بين انهيار حكومة الكيلاني، وعودة الوصي عبد الإله من المنفى. لأسباب رسمية وسياسية، خرج جزء من بغداد، المتعاطفة بمعظمها مع الحكومة المنهارة، لتستقبل المنتصر العائد، الوصي. صادف ذلك اليوم عيد ديني يهودي يرتدي فيه اليهود ملابس زاهية. فُسّر هذا على أنه احتفاء بعودة الوصي المكروه وتعاطفاً مع حماته البريطانيين، ونكاية بـ"الثورة" التي انهارت. تطور شجار بسيط على أساس سوء الفهم هذا، لتبدأ مطاردة اليهود وتعقبهم على امتداد بغداد. بدأتها الشرطة العسكرية واندرج فيها أفراد من الجيش لينتشر هذا السلوك ذلك اليوم واليوم التالي: قَتلٌ لليهود ونهب واسع لممتلكاتهم ساهم فيه عسكريون ومدنيون عراقيون، بعضهم فقراء من سكان الأكواخ شرق بغداد، من مهاجري الجنوب المحفزين بالعوز الاقتصادي، وآخرون مدفوعون بكراهية دينية وسياسية. رغم محاولة قلة من عسكريين ومدنيين الوقوف بوجه العنف والنهب ضد اليهود، تصاعد هذان الأمران سريعاً، ولم يوقفهما إلا أمر خطي متأخر من الوصي بإطلاق النار مباشرة على المعتدين، تلاه إعلان حكومة جميل المدفعي حالة الطوارئ لوقف العنف والنهب. كانت الحصيلة فظيعة، إذ أشار التقرير الحكومي إلى أن عدد القتلى هو 110، بينهم 28 امرأة (على الأكثر الحصيلة الحقيقية أعلى من هذا، ربما بحدود 300 قتيل حسب تقديرات أخرى) ونهب 586 مخزناً و911 بيتاً، بيع الكثير منها تالياً في أسواق البلد المختلفة، في بغداد وخارجها. أصدر حينها المرجع الشيعي الأعلى في النجف أبو الحسن الأصفهاني، فتوى تُحرّم بيع ممتلكات اليهود وشراءها بوصفها مسروقة ومغصوبة.
رغم وحشيتها، كان يمكن لحوادث الفرهود أن تكون لحظة مؤلمة وفارقة، يمكن للمجتمع والدولة تجاوزها عبر التعويض والتثقيف وتعلم الدروس ووضع المصدّات المؤسساتية التي تمنع تكرار مثل هذه الفظائع، خصوصاً مع إقرار الحكومة الملكية - عبر اللجنة التي شكلتها للنظر في هذه الحوادث - بالتحريض الواسع الذي كانت تمارسه حكومة الكيلاني، وخصوصاً وزير اقتصادها يونس السبعاوي، ضد اليهود العراقيين، بتأثير من الحسيني وأنصاره وبث إذاعة برلين بالعربية الذي لم يكن يقل تحريضاً. لكن الذي حصل كان أمراً آخر: لوم حكومة سابقة عدوة على هذه الحوادث، من دون ربطها بثقافة اجتماعية تمييزية عميقة الغور، واستعداد مؤسساتي وحزبي لتمثل هذه الثقافة في أفعال حكومية وسياسية. كان يمكن الاستفادة من بشاعات الفرهود كلحظة صادمة، تدفع لإصلاح هذه الثقافة وردع اندفاعاتها المؤسساتية والسياسية. لأن هذا لم يحصل، برزت هذه الثقافة بتمثلاتها السلبية وعلى نحو صارخ، بعد ثمانية أعوام، عندما خسرت الجيوش العربية حرب 1948 ضد إسرائيل، رداً على إعلان الأخيرة نفسها دولة مستقلة في منتصف أيار (مايو) 1948، بعد تبني الأمم المتحدة في نهاية نوفمبر 1947 القرار 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية.
مثلت هذه الهزيمة جرحاً هائلاً في الكرامة عربياً وعراقياً. في تلك اللحظة، اندمج الغضب الشعبي بالغضب الحكومي بحثاً عن ضحايا أبرياء للتعويض عن خسارة فادحة لم يكن لهؤلاء الضحايا دور فيها. كان أحد هؤلاء الضحايا تاجراً يهودياً عراقياً ثرياً اسمه شفيق عدس. كان هذا الرجل البصري ممثلاً لشركة "فورد" الأميركية ومورداً لسياراتها في العراق، واعتاد مع شريكه المسلم، رجل الأعمال ناجي الخضيري، على شراء المخلفات العسكرية للجيش البريطاني في العراق، أو ما يُعرف بالخردة، وبيع الأجزاء الصالحة منها للدولة العراقية والمتبقي للسوق. اعتُقل بتهمة كونه شيوعياً وصهيونياً وبيعه الأسلحة إلى إسرائيل. كان الظلم في التهم الموجهة للرجل واضحاً وصارخاً: حوكم سريعاً، خلال بضعة أيام في أيلول (سبتمبر) 1948، أمام محكمة عسكرية ترأسها قاض قومي وحزبي كاره لليهود وصدر ضده حكمٌ بالإعدام مع غرامة قدرها خمسة ملايين دينار عراقي، من دون أن يُسمح له بتقديم شهادته، ومن دون أدلة على جرمه المفترض. لم تتعرض السلطات لشريكه المسلم الذي كان يقوم معه بشراء الخردة العسكرية وبيعها. لم تنفع عدس علاقاته الواسعة مع كبار الساسة العراقيين، ومن بينهم الوصي نفسه الذي تناول الطعام مع عدس بضع مرات في السابق. قيل إن الوصي قال عند توقيعه على أمر الإعدام "إني أعرف أن هذا الرجل بريء لكن لا بد من إعدامه". أعدم شنقاً بالعلن أمام قصره في البصرة وصادرت الحكومة ممتلكاته.
كان إعدام عدس صدمة كبيرة لليهود العراقيين، خلاصتها أن الدولة لم تعد تحميهم، وأن مؤسساتها تستهدفهم. على نحو سريع تتابع الإعلان عن سياسات تمييزية ومنهجية ضدهم. تدريجياً مُنعوا من دخول الجامعات ومن الحصول على إجازات استيراد ومن العمل في مجالات عديدة، كالمحاماة والقطاع الحكومي. في ظل هذه الأجواء الخانقة، أصدرت حكومة توفيق السويدي قانون إسقاط الجنسية عن اليهود العراقيين الراغبين بالسفر إلى إسرائيل، بعد رفع منع السفر إليها. وافق البرلمان العراقي على القانون في آذار (مارس) 1950، وتولى وزير الداخلية حينها سعد صالح جبر تنفيذه. كانت استجابة اليهود لهذا القانون ضعيفة نسبياً، فلم تقدم طلبات إسقاط الجنسية إلا لأعداد صغيرة، لكن سلسلة أعمال عنف، بحدود ثمانية تفجيرات بين نيسان 1950 وأيار 1951، استهدفت محال وبيوتاً ومراكزَ يهودية، بضمنها معبد، غيّرت هذا. تسارع تسجيل اليهود أنفسهم ضمن هذا القانون ووصل العدد في 1951 الى نحو 130 ألفاً منهم. اعتقلت الحكومة يهوديين واتهمتهما بتدبير هذه التفجيرات. رغم اعترافهما بأنهما ينتميان للحركة الصهيونية، فقد أنكرا ضلوعهما بهذه التفجيرات. أعدم الاثنان في آخر المطاف. ثمة الكثير من الجدل إلى اليوم بخصوص هوية المنفذين الحقيقيين. لكن الخلاصة بالنسبة لمعظم اليهود العراقيين حينها أنهم مستهدفون منهجياً من مؤسسات الدولة، ومستهدفون أمنياً في وسط شعبي وسياسي غاضب يعتبرهم عملاء أو متعاطفين مع إسرائيل.
حاولت حكومة عبد الكريم قاسم عند تسلمها الحكم في 1958 إنصاف اليهود، فألغت القوانين التمييزية التي صدرت بحقهم في العقد الأخير من العهد الملكي. لكن لم يكن قد بقي في العراق وقتها إلا عشرون ألف يهودي. مع ذلك، كانت الحكومات القومية العسكرية التي تلت حكومة قاسم تخشى هذا العدد الصغير من اليهود، إذ أعاد الحكم البعثي الأول في 1963 القوانين التمييزية ضدهم وأضاف إليها. في حكمه الثاني الذي بدأ في 1968 استخدمت الحكومة البعثية اليهود العراقيين كأكباش فداء، كما فعلت الحكومة الملكية في نهاية الأربعينات! أعدمت تسعة منهم شنقاً في العلن في يناير 1969 بتهمة أنهم جواسيس، في ما يبدو رداً على قصف إسرائيل لموقع عسكري عراقي في الأردن في نهاية 1968. بنهاية حكم صدام في 2003، لم يتبق في العراق إلا بضع عشرات من اليهود العراقيين كبار السن.
لكن حتى حكومات ما بعد 2003 التي قدمت نفسها على أنها ديموقراطية ومعنية بتصحيح المظالم السابقة، أضافت ظلماً آخر لليهود العراقيين. أحد الأمثلة هو استثناؤهم من الاستفادة من قوانين استرداد الملكية والجنسية للعراقيين الذين فقدوا جنسياتهم وملكياتهم لأسباب سياسية منذ 1963 فصعوداً!
يحتاج العراق لأن يتصالح مع ماضيه الاستبدادي بإزاء يهوده السابقين، ليس فقط من أجل الإنصاف الأخلاقي والعدل القانوني وهما مهمان جداً، وإنما أيضاً من أجل أن يكون للحنين العراقي الشائع هذه الأيام لليهود العراقيين معنى وقيمة يتجاوزان الرثاء اللفظي والشجن العاطفي!
"النهار" البيروتية
بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (4 من 5) 29/03/2022 - 06:21 بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (3 من 5) 29/03/2022 - 06:17 بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (2 من 5) 29/03/2022 - 06:15 بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (1 من 5) 29/03/2022 - 06:12

مشاهدة الموقع بالنسخة العادية