(دروبُ الموت 7) كنتُ تاجرَ مُخدرات
    الأحد 27 يونيو / حزيران 2021 - 05:26
    قاسم محمد الكفائي
    تعتبر مدينة كراجي العاصمة الأولى لدولة الباكستان بعد انفصالها عن الهند منذ زمن مؤسسها محمد علي جناح حتى عهد رئيسها ذو الفقار علي بوتو، ولما استولى ضياء الحق على الحكم بانقلابه على بوتو نقل العاصمة الى مدينة إسلام آباد في إقليم البنجاب. الآن تعتبر كراجي عاصمة إقليم السند رسميا، أما أنا وبحسب تجربتي أعتبرها عاصمة الجريمة الدولية المنظمة، أو هي حلبة صراع السياسة الدولية. كراجي التي يقطنها في ذاك الزمان حتى عام 1989 أكثر من عشرة ملايين نسمة، كنت أراها بعيني تفور كالتنور المشتعل. لا أستطيع القول الصريح حتى لا أعبر الخط الأحمر سوى أن في المدينة عشرات فرق الموت، ومئات فرق الصراع الإعلامي والسياسي وكل واحدة تمثل جهة ما من الداخل والخارج، فالحكومة تعرف وتتابع وتشارك أحيانا على طريقة (إدفع أكثر). القنصلية العراقية الصدامية في كراجي كان لها العديد من هذه الفرق وأخطرها، فهي تدير مجاميع كبيرة تعرّفتُ على وجوه الكثير من عناصرها تحسبا منهم أنهم أذكياء وإذا بي أنا المفلس الذي لا يمتلك سوى الذهن والتجربة أغوص من تحتهم وأستفيد من أخطائهم وجهلهم. في الحلقة السابقة ذكرتُ أن سمير اجتمعت عليه الأصدقاء من مذهبه (صابئة هكذا سمعت عنهم) فاشتروا له الملابس الجديدة والنعال ويأكل معهم كل يوم نوعا من الطعام يصعب عليه تناوله معي أو لوحده حتى أرى خديه قد بانت عليهما الحُمرة. وكان فرِحا بهم فعندما أحذرُه أو أدعوه للعودة إلي يشعر بالضيق. عرفت سرّ انسجامه بعد أكثر من عام لأنهم صابئة مثله ، هذا حساب الغشيم.
    أما من طرفي فقد لازمني العراقي المدعو (ناصر العتيبي- إسم مزوّر)، قال لي مرة أنه من سكنة بغداد حي الغدير–لا أظنه كذلك-. مع أني أحسبه من بغداد الحبيبة أو مدينة الثورة آنذاك، فكان يدعوني دائما لتناول كباب في المطعم الإيراني القريب جدا من محل إقامتنا. كنتُ مبسوطا بالكباب من حيث الطعم والجَودة، وكنت أتناولُه بمظهر الغشيم. ناصر العتيبي شاب بعمر لا يتجاوز 32 عاما، ليس له ثقافة، طيّب المعشر، يؤدي الأدوار بعقل شيطاني أو أنه الشيطان بعينه. بقيت أحسب معه ألف حساب فرأيت من الأفضل والأسلم أبقى معه أجاريه لأتعرف على قدر أكبر من المسرحية، لكنني حذر بكل تصرف أقوم به. هذا الأسلوب إتبعته منذ العام 1979 في العراق عندما واجهت الماكنة الأمنية الصدامية بالعقل الآخر والحكمة وليس الثقافة السياسية والطرهات النضالية التي تغث ولا تسمن ( الحديث هنا بحاجة الى كتابة يصعب نهايتها ). دعاني ناصر أن أعيش معه في غرفته بفندق (الفاروق) بمنطقة (كانت ستيشن). هذا الفندق أشبه ب(قن دجاج) لكن ناصر اختاره لموقعه المهم ثم لرفع الشبهة عنه بتواضعه.
    إدعى ناصر الغبي جدا (هو ذكي على الآخرين أو عندما يكون توجيهه من قبل القنصلية مغلوطا وغير مدروس بمهنية عالية) أنه شيوعي وعندما أحاوره ببلادة عن الفكر الشيوعي يحاول دائما تجنب المحاورة لأنه فارغ ليس له منها رصيد ثقافي، فأظهر بنتائج صحيحة تعينني على تجديد مواقفي والحيطة منه. كان يُسمعني أنشودة الحزب الشيوعي المحببة لدى جميع أعضائه المخلصين، تنشدها فرقة من الأناث والرجال ممسجلة على شريط كاسيت جهاز -المسجل- نصها:
    عامل من العمال يمه الحيدري+ خالد مع الأجيال يمه الحيدري 
    خلليته بضلوعي يمه يمه يمه+ حزبه حزب شوعي يمه الحيدري
    كنت فرحا به كشيوعي غيور على بلاده وأدفعه للمزيد من العمل في مواجهة نظام صدام المستبد فصار هو الضحية وليس أنا لأن الذي أدار الأزمة هو أنا عندما كنت أوعده بالعمل المشترك ضد النظام، أما بفارق القوة فإنه الأقوى. فلما وجدني عبارة عن خروف سهل ذبحه واقتناء لحمه أطلعني على عصابة أكثرهم من الفلسطينيين. كنا نذهب في كل مساء تقريبا الى هوتيل –هوليدا إن- ونجلس في قاعة الإستراحه على مقربة من طاولة الدبلوماسيين الإيرانيين حيث كان بعضهم يسهرهناك. ذات مرة نظر إليّ أحدُ أعضاء العصابة الأرجح هو فلسطيني فضرب يدَه بالأخرى وقال ما معناه ( ما في صبر). لم يدم هذا المشهد طويلا وانقطعتُ عن الذهاب الى الهوتيل، لكنني في كل مرّة أسر بها صديقي المدعو علي عبد المنعم حميد، الآن في النرويج لو حدث أمر ما يضرُّ بي إذهب فورا فورا وخبر مكتب الأمم المتحدة. ذات يوم وقع علي الذي كنت أتوقعه بشكل عام وليست بالتفصيل الدقيق. كنتُ جالسا في غرفة ناصر أنا وزميلي علي وكان الوقت عصرا، دخلت علينا مجموعه من الرجال الباكستانيين عددهُم أربعة  فسألونا لمن هذه الغرفة أجبتهم تعود الى ناصر، أين هو، لا أدري... أشغلوني بالكلام معهم وأشغلوا زميلي علي فقاموا بالتفتيش تحت السرير وتحت الفراش وفي زواياها. صرخ أحدُهم بوجهي وفي يده صرّة، ما هذه أجبته لا أعرف، طلب مني فتحها فأبيت أن افعلها وقلت له أنت أعرف بها، إفتحها أنت، ثم فتحها هو وقال هذه أنواع من المخدرات وليس نوع واحد ، إذن أنت تاجر. قلت له  إسأل ناصر يعرفها، قال انت الآن هنا فهي لك. أخرج من جيبه هويته وقال نحن  FIA يعني مخابرات الباكستان. بينما انا ادافع عن نفسي رفعوني ثلاثة منهم وكأنني عصفورا بينهم ونقلوني الى سيارتهم تشبه -لاند كروز-، قلت الى زميلي علي إذهب وبلغ مكتب الأمم المتحدة على الفور. كنت جالسا في السيارة وقد أقبل علينا ناصر كحلقة أخرى لمسلسل مازال رهن التشغيل. تعجّب وانذهل وسألهم عن فعلتهم فأمروه بالصعود معهم. جلس الى جانبي وهو خائف إلا إنني طمأنته كوننا أبرياء من أي تهمة ونحن سياسيون وليس تجار مخدرات. أخذتنا المفرزة الى مقرهم في منطقة إسمها -دفينس- من أرقى أحياء كراجي بعد -كلفتن-. أجلسوني لوحدي وناصر في غرفة أخرى ننتظر المترجم يساعدنا على نقل الإعترافات. تأخر أكثر من ساعة حتى أظلم علينا الليل، بعدها دخل رجل محترم يسكن في نفس الحي إسمه عبد الهادي يعمل مهندسا في الإمارات كانت لغته العربية ركيكة ومفهومة. قال أحد الضباط بزي مدني..هذا الجرم بحسب القانون يعاقَب عليه المتهم الباكستاني عشرون سنة أما الأجنبي فيرحّل الى بلاده بعد سجنه. تحدث الكثير ولساعات ، ثم هددني بالضرب إن لم أعترف. جاء دوري بالحديث أنا الغشيم في نظر ناصر وقنصليته والمخابرات الباكستانية.أوجز ما تحدثت به... قلت لهم أنا رجل سياسة ومعتقل في العراق ثلاثة مرات كلها تؤدي الى الإعدام، غادرتُ بلدي (مضطرا) وغادرت أطفالي الثمانية من أجل المبادىء بغضا بصدام حسين وانتصارا للإمام الخميني فأنا أقلده دينيا، أنا ممتلىء قيم وطنية ودينية، لم يمض علي في كراجي أكثر من شهر لحد الآن لا أعرف منها سوى الشارع العام ما بين كانت ستيشن ومركز المدينة (صدر)، الشاهد على ما أقول هو ناصر فاسئلوه. أنا الان عضو في مكتب اللاجئين السياسيين وليست عضوا في منظمة المخدرات التي لا أعرف أي شيء عنها ولا أي عراقي آخر، ثم أنا جئتكم من حدود جمهورية إيران الإسلامية وليست من حدود بغداد. هذه المسرحية التي تسمونها تجارة مخدرات سوف تجلب عليكم الخزي وبسببي ستضعون ضياء الحق في حرج أمام العالم، خذوا المال من القنصلية فسوف لن يحاسبوكم على فشلكم بهذه المهمة (بهت الجميع والحديث يطول).
    في هذا الملف (المسرحية) هناك تحليلات أخرى كنت قد حسبتها وأظهرت نتائجها... واحدة منها أن القنصلية تريد أن تتعرف على موقفي منها فيما لو استعين بها من هول التهمة، هذا بناء على الظرف الذي هم يفهمونه، ولما أنهيت الملف بردة فعل جريئة وصحيحة لم يتوقعه الضباط الباكستانيين، ولا القنصلية، أو المترجم عبد الهادي الذي ارتعشت شفتاه أثناء التحقيق. في منتصف التحقيقات أدخلوا عليَّ ناصر ووجهوا له بعضَ الأسئلة السخيفة مجرَّد تورية، أجابهم بأسخف منها. ناصر غير قادر على إسكاتي لأنه لا يملك ثقافة الرد والحوار ولأنه عضو في تلك المسرحية. ما يجدر الإشارة اليه أن مخابرات القنصلية العراقية في كراجي قامت قبل خمسة شهور تقريبا باختطاف وقتل وقطع رأس وأطراف عراقيين إثنين سامي ومهدي (في هذا الظرف لم أكن دقيقا بذكر إسمَيْ الشهيدين لكنني ذكرتهما في حلقات عالم المخابرات عام 2006 والدكتور صاحب الحكيم سبق وإن صحح لي الأسمين بتنويه على موقع صوت العراق، بالتأكيد أنا الآن استطيع التوصل لمن نفذ الجريمة، على مسؤوليتي).
    خرجنا من مقرهم وكانت لي الغَلبَة بفضل الله وأنا غير مصدق أنهم يتركونني وشأني لأني وضعتهم في دائرة الإتهام وليست أنا. وفي طريقي الى غرفتة يسألني ناصر (أبو محمد شنو قصدك بهذا الكلام أوذاك، بقيت أبرر له بأني أحاول تبرئة موقفنا من المصيبة)، لكنني أخبرته بوجوب مغادرتي كراجي الى مدينة إسلام آباد العاصمة فورا. في نفس الليلة صعدتُ القطار ومعي علي عبد المنعم حميد، أما ناصر العتيبي فحشر أنفه وسافر معنا. وصلنا بعد مسير 3 أيام أو أقل بقليل حيث عبرنا إقليم السند وإقليم البنجاب وصولا الى مدينة راولبندي التي هي المحطة الأخيرة للقطار وذلك في بدايات أيلول من عام 1987. تبقى هناك ملاحظة .. لماذا لا أتابع هذه القضية مع مكتب الأمم المتحدة يوم وقوعها فهي الكفيلة بتسفيري فورا من الباكستان الى أوروبا إلاّ أن عنادي هو الذي حدّد كل مواقفي أن أبقى في الباكستان لأعمل ضد النظام وأتعرف على أسلوب عمله. فوقعَت عليّ الكوارث. وحيدا بلا معين إلا الله. الى حلقةٍ  ثامنة قادمة.        

    قاسم محمد الكفائي Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada


    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media