(دروبُ الموت 11) من تفتان الى طهران
    الأربعاء 30 يونيو / حزيران 2021 - 13:15
    قاسم محمد الكفائي
    تفتان الباكستانية التي تقع على مسافة بضعة أمتار عن حدود إيران من جهة ميرجاوة تتكون من خيام أو بيوت طينية لا تتعدى أكثر من ثلاثين وحدة سكنية آنذاك. هذه البيوت الخاوية تعرفها جميع المخابرات في دول العالم أولها السعودية وأمريكا وإسرائيل والإمارات، فهي وضواحيها محطة للشر والتآمرعلى الجمهورية الفتية في إيران. المؤسسات الأمنية المختصة ترصد هذا العالم الغريب وتضعها في أولويات حساباتها. فالعمل الإستخباري والتخريبي في الداخل الإيراني لو مرّ من تفتان فإنه يمر بمرحلة أولى تحتاج الى عبور مراحل مهمة أخرى بحسب الحالة الجغرافية لتلك المنطقة. وقد تكون المهمة فردية كحامل بريد شفوي مثلا ينزل للداخل إما بذريعة التجارة أو الزيارة أو السياحة أو عمل آخر. أما مسألة محاولات تخريب الإقتصاد الإيراني فهي كثيرة بتزوير العملة الإيرانية وتهريب المخدرات والبنزين. وهناك محاولات أخرى كتهريب الأشخاص المعارِضة، أوالعناصر المُخربة، أو جمع المعلومات عن أي نقطة داخل إيران (( في هذه التخرصات وهذا الوضع القاسي مررتُ من هناك ودخلت الى الأراضي الإيرانية ووصلت حتى طهران فمن يصدق بطهارتي وحسن نيتي ومن لا يضمن تسليمي الى نظام صدام من قبل الحكومة الإيرانية في حالة تمَّ علي القبض )). فعندما نسمع في الأخبارعن عملية تخريب في مدينة زاهدان أو بعض مدن بلوشستان، أوعمليات اغتيال شخصيات في الحكومة لابدّ لمملكة تفتان الخربة وجبالها القريبة الموحشة أن تكون محطة تمر منها الأشرار. يصعب على القادم أن يتعرف على أي من هذه العناصر لأن جميع سكانها حفاة، كالحِي الوجوه، ذوي لِحى وسخة وطويلة وشعر رؤوسهم كذلك. لكن المندسين تقف خلفهم سفارات أو قوى سياسية ومذهبية محسوبة على الداخل الباكستاني (مافيا السياسة) وقد تحركهم بعض أجزاء من حكومة إسلام آباد وعلمائها الذين ينتمون للمذهب الوهابي. فالحديث عن المعقدات لا تنتهي بحديث عابر ولا يمكن حصرها بسهولة.أتذكر في العشرة الأخيرة من شهر مارس لعام 1988 حين خططت للخروج من مدينة كويتة عاصمة إقليم بلوشستان الى منطقة تفتان الباكستانية التي هي بمثابة عالم غريب على كل ما اطلعت عليه في حياتي في السياسة والثقافة وكل شؤون الحياة. فحين وصلتها بعد معاناة خطورة الطريق زاد عليّ حزني وآلمتني جروحي لكنني صبرت ومكثت فيها ليلة واحدة وغادرتها صباحا مع مجموعة من أهالي كويته سبق لهم دخول إيران من هذا المعبر لعشرات المرات. جلست في وسط البيك آب مع الجالسين ولما وصلنا نقطة التفتيش هيأت ورقة مزورة بإسم مزور لكن الذين تعرفت عليهم في تفتان أشغلوا الحرس بأسئلة كثيرة وجعلوه يزهق منهم فأمر السائق بالمغادرة. لما وصلتُ زاهدان حسبت أنني في طهران. ومن مدينة الى أخرى وصلت كرمان وبالقطار صعدت الى طهران فوصلتها بسلام. الأمر ليس بالسهل أبدا كون الواقع المرئي يقطع الأنفاس ويذوب منه الصخر
    في طهران وقع علي واجب التخفي وعدم الظهور خشية اعتقالي من قبل (إطلاعات- المخابرات الإيرانية) لأنني بهذا الوضع أعتبر جاسوس خطير ومحترف خصوصا وأن العقل الإيراني من قبل وما زال لم يتعرف بعد على (بواطن) علم المخابرات سوى أن العاملين يتصرفون بالعلم الأكاديمي، تحرسهم مؤسسات الدولة ما قبل قاعدة (السر وما يخفى). صباحا التقيتُ بزملاء محترمين على مستوى الساحة العراقية في المهجر الإيراني فخيروني بخيار واحد هو الإلتحاق بمقراتهم في شمال العراق حتى يفعل الله ما يشاء. رفضت هذا العرض، ثم التقيتُ بصديق لي أتذكر إسمه (أبو هدى) يعمل مع الإطلاعات فطلبت منه تقديم تقريرعني بأني وصلت طهران وأرجو تسويت أمور بقائي في إيران. بعد أيام التقيته في (كوجه مروي) وقال بروح النكته العراقية (نه ميشه... يعني ما يصير). المهم من طرفي قضي الأمر أني غير خائف وليس عندي ما يضر بالجمهورية. بقيت التقي كل يوم بعضا من أصدقائي وأنام عند الكثير منهم وفي أرقى مناطق طهران، في تجريش مثلا.
    (كوجه مروي) في طهران هو زقاق ضيق وقصير يمكن أن نعتبره محطة لكل اللاجئين العراقيين القادمين على مدينة طهران وضواحيها، صنعته الإطلاعات كمصيدة للعناصر التي هي تبحث عنها، فما من عراقي طيلة سنين الحرب وما بعدها إلا أن يمر على هذه المحطة للتبرك بها، إما بموعد مع صديق أو لتزوير أيَّ وثيقة يحتاجها، وهي وكر دائم للعناصر العراقية التي تعمل للإطلاعات. ففي كل يوم أحيانا من الصباح الى المساء أنا في هذه المحطة أتناول الفطور العراقي والشاي السيلاني ثم الغداء. خلال ساعات النهار أقف مع تلك العناصر التي تسيطرعلى حركة كوجه مروي التي سماها السيد الخامنئي حين كان رئيسا للجمهورية ( وزارت كشور دوم، أي وزارة الداخلية الثانية). فكانت ذات أهمية لثلاثة أطراف، المخابرات الإيرانية، والمخابرات العراقية والمنكوبين العراقيين. خلال هذه المدة حاولت السفر الى دولة عربية عزيزة علي إلا أن الرجل الثاني في سفارتها إعتذر بحجة أني خرجت الى الباكستان ورجعت بطريقة غير شرعية، بينما كنت له مفيدا نافعا بامتياز في تلك المرحلة. كان رجلا رائعا ومهنيا لكن هناك آخر يشتغل بمزاجه منعه من مساعدتي وليس بمهنيته، فخرجت منه ولم أعد.  
    ذات يوم في كوجه مروي طلبني جبار أبو شوارب (يعمل لإطلاعات كنتُ أعجب كيف أن المؤسسة الأمنية تفكر بحماقة وغباء وتتصرف بطريقة عوجاء لا تعرف أين مصلحتها حتى خسرَت الكثير) بحديث خاص بيني وبينه فلبيت طلبه ووقفنا على جانب آخر، قال:عندي صديقتي إيرانية إسمها مريم معارضة للنظام والان في كراجي أخوها في طهران يحاول الإلتحاق بها أرجوك ساعده وخذه معك لو رجعت الى الباكستان. هذا جبار إن لم أعرفه وإن لم أحسب كم شعره في شاربه معنى ذلك أنا مدفون في المقابر الجماعية في العراق ما قبل وصولي الى إيران، أو مازلت في سجن (إيفين) الإيراني، أو أن جمجمتي قد تهشمت في (كراجي) وعظامي رميم، أو أنني ما نجحت برواحي ومجيئي ما بين الباكستان وإيران. نظرتُ اليه بازدراء وتعجُب وقلت في نفسي.. (صحيح فعلت بنفسي كلَّ هذا من أجل أن أسمع كلاما ممن لا يستحق، وأرى وجه مَن لا يستحق )، لكنني أجبته بصوت عال سمعه، بأني هنا لن أغادر. الى حلقة إثناعشر القادمة.  
    قاسم محمد الكفائي 
    Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada


    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media