(دروبُ الموت 13) الهروب أو تسليمي للعراق
    الخميس 1 يوليو / تموز 2021 - 19:29
    قاسم محمد الكفائي
    في أردوكاه كرج الذي وصلته قادما من سجن (طهران شرق-في ضواحي طهران-) ما كان بوسعي الخروج منه كعادة العراقيين أن يذهبوا صباح كل يوم الى طهران ويعودون منها مساء قبل العاشرة ليلا بحسب أوامر إطلاعات طهران. شعرتُ بضيق ألمَّ بي وبت أفكر بأمر يعينني على عبور أزمتي التي أعيشها. فالهروب من هذا المعسكر سهل علي على الرغم من الحراسات التي تحيطه لكنني انشغلت بالتخطيط لما بعد الهروب منه. من عادت العراقيين الذين لا يخرجون من المعسكر في ذلك اليوم يمشون جماعات أو فرادا داخل المعسكر وكل على شاكلته  وطريقته في الحديث وقضاء الوقت. بقيت لأكثر من أسبوع في المعسكر فخرجت بنتيجة ممتازة هي أن صديقي (ماجد إسماعيل محمد – لبس العمامة وصار عضو في البرلمان العراقي ما بعد 2003 بإسم الشيخ ماجد الحفيد) يكفلني في مكتب الإطلاعات لدى الضابط المحترم (آقاي شهيدي) ذي الخلق الرفيع الذي يمكن أن أصفه حقا بجندي الإمام الخميني والثورة الإسلامية. وافق شهيدي على الكفالة لكنه كرّر نصيحته بأن أخدم الجمهورية الإسلامية فهي جمهورية المستضعفين، وذكّرني بنصيحته حين حذرني أول مرة بعدم الهجرة الى الباكستان.
    للأمانة كان شهيدي يقول الصواب، لكن نصيحته كانت عندي منقوصة بحسب متابعتي لعمله ودرجة وظيفته. كانت له بعض الإمكانيات في مساعدة العراقيين الذين عليهم بعض الإشكالات عند المؤسسة الأمنية في طهران ويُحترم رأيه وملاحظاته لكنه قد يكون غير موفقا بمساعدة من مثلي مشاكسا، جريئا، يخوض المنايا دون أن يركن لطلباتهم وإغرائاتهم وضغوطاتهم، ولا حتى لواقع الحال المميت الذي أعيشه. بقيت أياما أخرج بكفالة ماجد الى طهران، أتشاور مع بعض الأصدقاء الذين بعضهم قدَّم لي جواز سفر بحريني كي أخرج به من المطار(لم أوافق والحديث يطول). لم تمض مدة أكثر من عشرة أيام بقيت فيها مواكبا ماجد حتى حصلت على أخطر نتيجة كنت أتابعها وأحللها وتيقنت منها.
    ماجد مصدر ثقة لدى إطلاعات طهران أولا: لأنه كردي الهوية وليس عربي(الأكراد والتركمان هم الطبقة الأعلى في المعسكر،أما العراقيين العرب فهم في خانة: السلام عليكم). ثانيا: ماجد حال وصوله الى إيران وخلال التحقيق معه من قبل إطلاعات الأوردكاه أفاد بأنه تعرّف في العراق على شخص يوناني إسمه (مايكل) الذي حكمت بينهما علاقة طيبة بحيث أقر مايكل أن له علاقة بالموساد. فاقترح ماجد على الإطلاعات بمساعدته السفر الى اليونان للقائه من أجل الفائدة كصيد ثمين. بتدبير من المؤسسة الأمنية سافر ماجد الى أثينا ونزل فيها وبعد التحقيق معه كعراقي يبحث عن اللجوء رفضوه وأعادوه الى طهران. ثم عاد ماجد (حسب زعمه)الى أثينا مرة أخرى أيضا طردوه منها، وفي المرة الثالثة بتدبير من إطلاعات سافر الى أثينا عاصمة اليونان بنفس الجواز، عندها أجري معه تحقيقا من نوع أخر وأوعده ضابط المطار بتسليمه الى بغداد حال إرتكابه عملا مماثلا آخر ثم أعادوه الى طهران. وللتاريخ أقولها، كنت أتابع شخصية ماجد بكل دقة وتمحص فلم أقتنع به. فسألته ذات يوم في داخل المعسكر بحكم صداقتنا.. هل صحيح لك علاقة بمايكل وأنه كذا...؟ أجابني صحيح يعرف هذا الشخص لكنه ليست كما وصفته لهم، كنت أروم طلب اللجوء هناك وصولا الى أوروبا دون أن أعود مرة ثانية. قلت له الآن أنا ارتاحيت فقط لأني نجحت بتحليلي الصائب عن شخصيتك. هذا النموذج وغيره هو(الماشي) في إيران وليس قاسم محمد الكفائي الشديد البأس الذي كان ببركاته يحضر ألف مايكل مثلا (فات الأوان والى جهنم). 
    خلال وجودي في إيران رأيت حثالى الناس صاروا الأشراف وبالعكس. فكنت أشعرأن قيمتي لدى الإيرانيين هي أن أجمع لهم الأخبار مقابل شيئا من التومانات. فيذهب تعبي في العراق أدراج الرياح، ثم الهجرة التي تحملت وزرها فقط كانت من أجل نصرة الجمهورية الإسلامية. هذا الكلام لا يسمعه الإيرانيون منا نحن العراقيين العرب وليس له قيمة تُذكر. نعود الى ماجد، ذات يوم ناداه ضابط جاءه من وزارة إطلاعات للحضور في مكتب المعسكر وسأله عني الكثير، في الختام قال له الضابط -بناء على الثقة المتبادلة- قاسم طريقه الى بغداد ثم أشار بيده. جائني ماجد مرعوبا فأخبرني وقلت هذا ما أتوقعه. لقد شعرتُ بالنجاح وشعرتُ أني بألف خير. على الفور عرضتُ عليه خطتي بالخروج من إيران الى الباكستان نهائيا بشرط أن يرافقني، وافقَ وبسرور لأنه مفلس وليس بمقدوره فعل أي شيء لنفسه. كالعادة كفلني في مكتب الإطلاعات وخرجنا الى طهران فذهبت أبحث عن عمل وثائق مزورة تعيننا على المُضي بطريقنا حلال رحلتنا. بعد يوم أو يومين اقترحتُ على ماجد أن نبوح بإمرنا الى خالد (هو من بغداد وكان معتقلا في أبو غريب وقد أخفى عليّ أن له علاقة بالمخابرات العراقية لكنه أباحها لإطلاعات وبقى مُرحَب به في إيران دون اهتمام آخر...أنا كشفته وقصته ليس مهمة عندي لسذاجته وهو شخصية تجمع المتناقضات). وندعوه أن يرافقنا في مهمتنا. لما بدأت الحديث معه وافق على الفور وقال: معك أذهب أينما تشاء ، فعلاقتي معه فيها احترام.
    خرجنا نحن الثلاثة سويا الى طهران وتكرر خروجُنا لأيام وفيها أنجزت مهمة الوثائق المزورة، واشتريت سبعة عشر سكة ذهب أعتقد عيار 24. أنهينا بسرية تامة كل مستلزمات الهروب. مكثنا ليلة كاملة في فندق بطهران قرب كوجه مروي على بعد عشرة دقائق مشيا. إعترضا عليّ الإثنان كيف نحن هاربون وكيف ننام في الفندق في منطقة خطيرة في طهران، قلت لهم على مسؤوليتي، ناموا واطمئنوا لقد حسبتها جيدا وبإحكام أن نبيت في هذا الفندق. في غرفتنا بذلك الفندق طلبتُ من خالد أن يخفي السكك الذهب في (كمرالبنطلقون) الذي ألبسه وقد أحضرتُ له مسبقا المقص والإبرة والخيط، أنجز مهمة ممتازة بإخفائه السكك وعددهم 17 بحيث يستحيل على المفتش كشفهم.. حتى أنا شخصيا بمرور الأيام نسيت أن عندي ذهب في بطانة حزامي. فعلا كان عملا رائعا. اتفقنا في غرفتنا أن تكون وجهتنا الى مدينة مشهد وليس زاهدان (عاصمة بلوشستان) فاعترضا عليّ أشد اعتراض فقلت لهما، من فضلكم إفهموا، عندي وجهان، الظاهر أنني رجل شقي وذكي ومشاكس، أما الوجه الآخر الخفي وهو سرُّ قوتي، يمثل ولائي الى آل البيت وهم أجدادي لذا يستحيل عليّ مغادرة إيران قبل أن أزور جدي الأمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فاضطربا قليلا وناقشاني ببعض ازدراء إلا أنني طمأنتهما بأني أنا في خطر حقيقي وأواجه مشروع تسليمي لحكومة بغداد أما أنتما فبخير، معنى هذا إطمئنوا ودعوني أتصرف. وافقا على مضض وفعلا في صباح اليوم التالي خرجنا باكرا من الفندق باتجاه الحافلات الكبيرة التي تنقلنا الى مشهد. غادرنا طهران وأنا في قلق ليست بالكبير وإنما حالة طبيعية يستشعرها الإنسان في زمن الشدائد.  وصلنا مشهد بعد 18 ساعة تقريبا (عساني ما نسيت). أكيد ذهبنا الى المطعم وفطرنا وكنا بحاجة الى النوم مع أننا نمنا في الحافلة. ذهبنا جميعا الى حضرة جدي الإمام الرضا -ع- فلمست السذاجة والسطحية لدى رفيقَيْ اللذين إصطحباني لزيارة الإمام -ع- . قرئا سورة الفاتحة على روح الإمام وحاولا الخروج فطلبت منهما التريث وأن يقفا الى جانبي  وينصتان إلي عند قراءة الزيارة المعلقة على ضريح الإمام الطاهرفيرددان من بعدي ما أنا أنطق به. وفعلا تمت الزيارة وشعرت في داخلي أنني قد وفيّت ونلت رضى جدي الإمام. لم أعد أخشى أيَّ ضرر لو واجهني من بعد هذه الزيارة. هكذا أعتقد وهو سر أخفيته ولازمني طول حياتي ولن أبوح به. في المساء ما بعد المغرب ذهبنا جميعا الى لعبة الزورخانة التي تعد تراثا رياضيا تعتز به بلاد فارس لِما فيها من فائدة جسمانية ونفسية وحالة ربط تجمع القلوب بترديد الصلوات على محمد وآل محمد خلال ممارسة التمارين. أنا أعشقها وأتمنى أن أواكبها طوال حياتي. كنت أتصرف في مشهد بروح عالية مطمئنة وكأنني ضابط إطلاعات وليس جاسوسا هاربا تبحث عنه وزارة إطلاعات نفسها. يبقى الإيمان الحق بالله سبحانه السرّ الكامن في وجدان الإنسان الذي يقيه من شرّ بني البشر، هكذا توسم ضميري بحب أهل البيت ع. هذا الأمر يسبق كفاءة الإنسان ومهاراته بالحياة مهما عظُمَ شأنُه وتوسَعت مملكتُه.
    الى حلقة أربعة عشر قادمة.  

     قاسم محمد الكفائي Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media