دروبُ المَوت (15-B) محاولة إختطافي عام 1989
    الأحد 4 يوليو / تموز 2021 - 13:41
    قاسم محمد الكفائي
    كما ذكرتُ في الحلقة السابقة بأني خرجتُ من المقهى وعدتُ إليها بعد ساعة تقريبا وكنت أبحث عمن يسألني عن وجهتي، ولما دخل الشيخ علي كورنكي سألته عن أبو زيد وضرورة أن نلتقي لأمر مهم حدث للتو بعد خروجي من المقهى، كنت أتظاهر أمامه بالمصداقية وكان يتظاهر أمامي بالعفوية والبساطة، كنا نخوض حالة صراع. جلستُ على الطاولة وكان كورنكي على الجانب الآخر من المقهى يتفنن برصدي ويتظاهر بعدم الإهتمام. قبل أذان الظهر تقاطرت عناصر أخرى على المقهى منهم شاب فلسطيني بملابس باكستانية وحذاء رياضي في قدميه، أزهري البشرة وشعر رأسه أصفر قليلا حتى شاربيه كما أتذكر، طريقة جلوسه ونظراته غير طبيعية بالمطلق. بعده دخل عصام الأردني من أصول فلسطينية، سبق أن التقيته في قسم داخلي للطلاب كما أتذكر وهو صديق أبو زيد. جلس معي على الطاولة وسألني عن صديقه فأخبرته أنه تأخرعليَّ وأنا بحاجة له منذ أكثر من ساعة لمقابلة صديق مهم إلا أنه تخلف. عصام حسمتُ أمره أنه عنصر جديد في عمل التحضير والمتابعة، فكان مضطربا، لون وجهه يتبدل الى ألوان، ولما تناول الغداء كان منزعجا ويده ترتجف، فزاد هذا المشهد توجسي وحذري توجساتٍ ومحاذيرَ أخرى. دخل علينا رجل ومعه إثنان من النسوة يلبسنَ عباءة عراقية، حسبته إجراء يضفي على عيوني رمادا ويشتت أفكاري، إلا إنني لم أتأثر بأي فصل من فصول المسرحية سوى تزمتي بمراقبة تلك الفصول لمعرفة النتائج، وجاء المدعو حسن كربلائي (عميل – عراقي مسفر من أصول باكستانية) وجلس لأكثر من ساعة. مشكلتي لحد الآن هي بقائي في المقهى لمعرفة المزيد من حلقات المسرحية وهي الأكثر أمانا إلي، فلو غادرتها فستكون الإجراءات أشد قسوة علي وسريعة. الجميع غادر المقهى وبقيت وحيدا فيها وأنا مازلت على الطاولة أراقب تلك الفصول والأدوار التي تؤديها تلك العناصر. في هذه الأثناء دخل الى المقهى رجل يتجاوز عمره الخمسون، شعره أشيب مخلوطا بالأسود يظهرعليه الوقار بشكله المقبول. سألني: (شفت أبو زيد...؟) أجبته بأني انتظره من الصباح والآن حلَّ المساء ولم يحضر، فورا سحب الكرسي وجلس. رحبتُ به وطلبت له الشاي.. بدأ حديثه... أبو زيد مواعيده مو مضبوطه .. وعرّفني بإسمه كاظم أبو جواد بحسب زعمه (رجع الى العراق بعد محاولة الإختطاف)، وأنه يروم السفر الى سريلانكا، قبلها سيسافر الى إسلام آباد بغرض بيع بعض الأحجار الكريمة على السفارة المغربية والكويتية غالية الثمن ومطلوبة ، وسألني عن عراقيين إثنين يعيشان في إسلام آباد قصي وأيسر، أنا أعرفهما، وقال عنهما قولا بذيئا.. كان غبيّا في كل طروحاته، لأن الذي علّمه الحِرفه هو أغبى منه. لما توجستُ منه الظن أول مرة تحول الى يقين، عندها فضلتُ الخروج من المقهى تماما وقد مضى عليّ الوقت. في هذه الأثناء دخل أبو جمال هادي كما أظنه بهذا الإسم ولكن عبد الأمير الخطيب يعرف كل تفاصيله لأنهما عاشا معا، ودخل معه رشيد الباكستاني. كاظم طلب مني التريث والجلوس وقد استجبتُ لطلبه بقصد معرفة المزيد من الأدوار جلستُ معهما معاندا وقد تجاوزتُ حدودَ المنطق الذي لا يسمح إلا بمغادرة المكان. حذري في الساعة الأخيرة وصل الى أقصاه أترقب العيون والشفاه وكل حركة يقوم بها هؤلاء الشياطين من حولي. أوصى أبو جمال النادل أن يأتيه بوجبة عشاء وبعد تناوله طعامه جاء رجل باكستاني ذو لحية كثة وتميل الى الباض، رأسه ضخم،أعتقد متوسط القامة، عريض المنكبين. جلس أمامي وفي يده حقيبة متوسطة الحجم تشبه حقيبة معقب الدعاوى. أخذ يتكلم مع شخص لا أتذكره لكنه لم يعِرلي أهمية ولا حتى ينظر إلي. خلال حديثه أظهر هوية تابعة الى حزب الشعب الباكستاني PEOPLE PARTY حزب بينظير بوتو. فهمت من حركته أنه يحاول ذرّ الرماد على عيوني لرفع الشك عنه على أساس هو رجل سياسة، تلقفتها وأنا مرتاح. 
    كاظم الى جانبي أخذ في تلك الدقائق يشغلني بحديثه عن لعبة كرة القدم الدولية التي كانت تجري على التلفزيون الفوق رؤوسنا. بين فترة وأخرى يقول بصوت هادىء ...شوف شوف ويشير بإصبعه الى اللعبة بينما أنا أسايره على حذر وتأهب، وإذا بالنادل قد أحضر لي الشاي ولكاظم، أما أبو جمال نهض ومعه الباقون ولما سأله كاظم أين تريد...أجاب (الليله عندنا حفله)، ووضع حبة هيل في كوب الشاي المخصص لي وقال إشرب شاي أخضر. خرجوا بينما كاظم يدفعني لشرب الشاي بسرعة كي نخرج من المقهى. إحتسيت الشاي بقطرة واحدة أو قطرتين وأعدته الى الماعون الصغير ولما نظرتُ الى داخله شاهدتُ بقع زيت تطفو فوق السطح تشبه زيت الزيتون بلونها الأخضر(هكذا رأيتها) إمتنعت عن تناوله وبقيت أنتظر.إضطرب كاظم وهو يحاول دفعي لشرب المزيد سكتُ عنه وأنا أترقب المتغيرات.شعرتُ (بنغزة) في قلبي وشعرت بعضلات رجلي الإثنين قد ثقلتا، رأسي يتعاظم حجمه، وعيناي تغيرت وظيفتهما، قلبي تصاعد خفقانه وشعرتُ بالدوران، حتى النطق أحسه صعب جدا. أخذ كاظم يكلمني وأنا لا أستطيع الرد سوى النظر اليه.. (شبيك أبو محمد... شبيك) بدأ الغثيان يدبُ بي وبقيت أشتهي النوم لكنني كنت أضرب على رأسي بقوة دون أن أشعر بالضربة. أخذتُ الملعقة الصغيرة وأدخلتها بقعر كوب الشاي ولما رفعتها حمَلَت معها مادة بيضاء أعتقد مخلوطة بحبيبات ناعمة لون بني (كنت أفسر الأمور بلا وعي طبيعي). نهضتُ من الكرسي بلا حول ولا قوة بينما كاظم يتوسل بي أن أبقى جالسا، قلت له..ما عليك إبتعد عني. نأتي على ذكر القميص الذي اشتريته الى صديقي، مسكته بيدي وجعلته بوصلة حالتي المتأزمة، فكلما أكاد أن أسقط أتذكر القميص بيدي وأقول في قرارة نفسي المحطمة (عيب عليك أبو محمد ما توصل القميص لصاحبه هاي مو من شيمة الرجال) صار القميص وسيلتي للإنتباه ووسيلتي التي تمنعني من السقوط والنعاس، فكنت أتصنع حالة نفسية تعينني في ذلك الوضع الصعب الذي عشته مرعوبا، فكانت تلك العناصر تنتظر سقوطي على الأرض لينقلني فقط كاظم أبو جواد الى المستشفى فيتوجه بي مع تلك العناصر الى مخبئهم وهو مسلخ للذبائح تماما، كما فعلوها بإثنين من العراقيين حيث تم ذبحهما ودفنهما في أحد بساتين منطقة كلفتن قبل عام تقريبا.
    وقفتُ على مقربة من شباك المطبخ أراقب باب المقهى من جهة الشارع، دخل عليّ رشيد الباكستاني الذي ينتظر خارج المقهى ساعات النهار.. سألني شو فيك حبيبي أبو محمد..شو فيك. أدخلتُ يدي الى جيبي ومسكت (الكتر.. قاطع الورق ذو شفرتين) بقوة وهمية أتصنعها والحقيقة تبددت قواي في تلك الساعة. طلبت منه أن يبتعد عني وإلا قطعت رقبته..هو أصر على مساعدتي وأنا أبحث عن وسيلة للخروج من المقهى... كاظم غادرالمقهى ورشيد أيضا..دخل أبو جمال هو الآخر فرفعت عليه ( الكتر)وانسحب ثم دخل جلال صاحب المقهى وهو مشدوه بالذي حصل وتظاهر بمحاولة مساعدتي للوقوف على قدمَي الخاويتين إلا أنني هددته بالقاطع الذي بيدي. إقتربت من الباب وبقيت أصرخ بقوة بلسان ضخم جدا وطوله تضاعف، أما قدماي أكبر من قدمّي الفيل كذلك عيوني ورأسي، وكنت أخاف من أي مخلوق أراه. بقيت أضرب على رأسي بقوة حتى لا أنام بفعل المخدر الذي سمعت عنه فيما بعد لو إحتسيت كوب الشاي سأنام لمدة ثلاثة أيام بلا وعي تماما. 
    بأتُ أصيح بأعلى صوتي باللغات العربية والأوردية والإنجليزية (الموت لصدام حسين .. صدام مرده باد.. Death to saddam). لم أتوقف عن الصراخ  وترديد هذا الشعار وأنا ثمل تماما. المقهى خالية سوى أنا الوحيد فيها والعمال ينظرون إلي مرعوبين، الذي ساعدني وأعانني هو تجمهرُ المارة ووقوفُهم على باب المقهى يراقبونني وأنا أصرخ بشعار كان وسيلتي الناجحة وخلاصي، فكان له الأثر الكبير بهزيمة المجرمين وعلى أقل تقدير إفشال كل مخططهم الإجرامي (هذا هو هدفي من الصراخ بالموت لصدام). خرجت من المقهى ثملا أكاد أن أسقط بينما سيارتان لونهما أسود مضللتان (كما أعتقد) واقفتان على الرصيف أمام الباب (كل هذه القصة دامت حوالي عشرة دقائق). كانت على مقربة من المقهى عيادة طبيب تقع على بعد خطوات في زاوية الطريق المؤدي الى جهة اليسارعندما خرجت من المقهى. بينما أنا أسير ثملا لا أستطيع أن أرى طريقي وأكاد أن أسقط سمعت صوتا من خلفي يناديني ..أبو محمد ، أبو محمد نظرت اليه فكان عبد الأمير الخطيب. وأنا في تلك الحالة شخصته ثملا، مخمورا تماما، أو بفعل المخدرات لا أدري بحيث اختفيت خلف المارة ومضى دون أن يراني. دخلت عيادة الطبيب وشكوت له الحال، أمرني بمراجعة مستشفى محمد علي جناح (جناح هاسبيتل). صعدتُ (الركشه - ستوته) فأوصلتني الى المستشفى وكان الوقت قبل التاسعة ليلا 30 11 1989كما أتذكر. أدخلتُ إسمي في سجل المراجعين (عادل مصطفى حسين) وأحالوني على القسم المختص، فيه تم تنظيف معدتي، مع إجراء آخر لا أتذكره. بعد خروجي منه فورا توجهتُ ب..(الركشه) الى القنصلية الإيرانية وكانت مغلقة إلا أني طرقت الباب حتى جائني الحارس وسألني مرتابا عن أسباب مجيئي.. أخبرته بأني في أزمه وأريد موظفا يحضر إليّ فورا. طلب مني أن أحضر غدا أثناء الدوام لكنني أعدتُ عليه أمري الإضطراري. إتصل على الهاتف فحضرا بعد نصف ساعه تقريبا إثنان من الموظفين. تفهموا ظرفي وأحضر أحدهُما حليبا فشربته لمعالجة حالة التسمم. بعد الحديث معهما طلبتُ منهما أن ينقلاني الى مكتب مفوضية اللاجئين في كراجي. أحضرا سيارة قديمة (فان) أعتقد تستعمل لنقل البضائع فصعدتُ في الخلف وتوجها بي الى حيث أريد. نزلا معي الى الموظف الليلي في مكتب المفوضية وتحدثا معه حول قصتي فدخلتُ الى داخل المكتب وسلمت قاطع الورق الى الحارس وانصرفا الدبلوماسيان بعد إن شكرتهما كثيرا آقاي إبراهيمي وآخر هادي كما أتذكر.
    حضر فورا ضابط أمن المكتب وكانت بصحبته صديقته الزنجية ولما أخبره الموظف بأن موظفين إثنين تابعين للقنصلية الإيرانية قد حضرا معي جن جنونه وطردني من الباب دون أن يفعل شيئا يعينني به على مصيبتي وأنا أحمل صفة لاجىء في المكتب التايع للأمم المنحدة. كنت ثملا أخاف من كل شيء أراه بسبب مضاغفات المادة وليس بسبب الصدمة. أصرّ على طردي وكنت أحاول أن يفهمني بأنني عراقي أحتمي في الدوائر التي تعادي نظام صدام عند الضرورة الملحة. لم يقنعه كلامي سوى أنه أظهر إستهتاره بعناد غير مألوف وحقده على إيران واضح ومفضوح. الى حلقة خمسة عشرC قادمة.

    قاسم محمد الكفائي 
    Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada

      
    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media