دروبُ المَوت (15-C) محاولة إختطافي عام 1989
    الأحد 4 يوليو / تموز 2021 - 15:48
    قاسم محمد الكفائي
    كنتُ ثملا وكانت مهمة الإنسحاب من أمام مكتب اللاجئين أصعب ما يمكن القيام به، وقد يكون الموت محققا بمجرد إصدار الأوامر من مصدرها في القنصلية العراقية. سيارات مدنية خصوصي أخذت تمر على باب المفوضية للاجئين ومنها سيارة فتاة قد لا تتجاوز الثلاثين مرّت على الباب لمرات عديدة في ظروف الفوضى الأمنية في الباكستان. في كل الأحوال تجرّعت السم وانسحبت الى الشارع العام واستأجرة (الركشة فهي خير وسيلة إليّ ولأنها أكثر أمانا من سيارة الأجرة). توجهت الى المدرسة الدينية  التي يعيش فيها صديق جلال أبو زيد إسمه غوث الغوثي (باكستاني) فهو أستاذ في تلك المدرسة سبق وإن التقيته فيها قبل يوم. إستغرب الرجل من حضوري في تلك الساعة المتأخرة إلا إنني طلبت منه المبيت عنده فرحب بي. كنت خائفا منه بسبب تأثير تلك المادة المخدرة على حالتي النفسية ومضاعفاتها الأخرى. في منتصف تلك الليلة دخل علينا أبو زيد وهو يسب العرب بأصلهم وأصولهم ولما سألته كيف عرفني هنا عند الشيخ الغوثي أخذ يضحك بلا جواب. غادرنا بعد أقل من نصف ساعة واتفقنا على أن يعود في الساعة العاشرة صباحا، إلا إنني طلبت من الشيخ الغوثي مرافقتي الى منطقة في كراجي فيها مسجد كبير للشيعة. فعلا غادرنا مبكرا وتم نقلي الى ذلك المكان على دراجته النارية فشكرته بعمق وما زلت أشعر بوجوب رد الجميل له (الجدير ذكره عندما كتبت سلسلة مقالاتي بعنوان عالم المخابرات عام 2006 فورا راسلني عبد الأمير الخطيب وكذلك جلال مصطفى صالح ، وكأنهما مخلصَين غيورَين، لكنني لم أبادلهما خوفَهم باهتمامي بهما). حاولت في مسجد الشيعة التعرف على شخص يعينني فلم أجده إلا أنني وجدت من نصحني بالذهاب الى الشيخ يوسف،ذهبت اليه ومكثتُ عنده ليلة كاملة في بيته (أخجل أنا الشيعي العراقي أن أسمع ببعض البشر ممن يدّعون التشيع). كان غرضي أن ألتريث بالإنسحاب من كراجي هو العمل الصحيح. في الصباح الباكر غادرت هذا (الشيخ) الى مدينة حيدر آباد ومنها الى مدينة سكر ثم مدينة ملتان التي راجعت فيها القنصلية الإيرانية لغرض مساعدتي في الحصول على مبلغ يعينني بالوصول الى إسلام آباد لأن المبلغ الذي لدي قد نفد. لم يسألني الموظف الإيراني عن هويتي سوى عرفني عراقي وفي حيرة فدفع إليّ ما أحتاجه وشكرته على عطائه (مرة أخرى أشير الى أن العراقي الذي تحل عليه كارثة أمنية يلجأ الى المؤسسات الدبلوماسية الإيرانية وليس المؤسسات السعودية أو الكويتية والإماراتية والبحرينية فقد كانوا في تلك الحقبة يلحسون حذاء صدام حسين، أما المؤسسات السورية التي نثق بها فهي غير حاضرة في مدن الباكستان ما عدى السفارة الموجودة في العاصمة، فالمؤسسات الإيرانية المنتشرة في كثير من المدن بحكم أهميتها في تلك البلاد). غادرتُ ملتان الى لاهور ومنها الى راولبندي التي هي آخر محطة للقطار. لما وصلتُ إسلام آباد ذهبت على الفورالى مكتب اللاجئين بينما أنا أعرف أن لهم علم بالذي جرى عليَّ. أخذوا مني تحقيقا موجزا حول الحادثة وكنت مهتما بإحالتي الى المختبر فورا. تأخرتُ يوما أو يومين بالعمد حتى أحالني ymca  الى المختبر الذي بدوره أعطاني موعدا لأسبوع كما أتذكر. راجعتُ مكتب اللاجئين معترضا على موعد المختبر بسبب أن المادة المخدرة سيفقدها جسمي وكنت الى ذلك اليوم الذي وصلت به الى إسلام آباد أحس بمفعول المخدر في جسمي أما تأثيره على نفسيتي فما زال الى هذه الساعة. لم أجد مّن يعينني بالإعتراض على المختبر ودعم الحقيقة العلمية التي تتعلق بمسألة المادة المخدرة في الجسم. راجعت المختبر على موعده وأجروا اللازم ثم ظهرت النتيجة لغير صالحي بسلامة الجسم من أي مادة مخدرة. هذه النتيجة جائت بمتابعة السفارة العراقية لها والإهمال العمد الذي تصرفت به المفوضية السامية للأمم المتحدة في إسلام آباد ظنا منها أنني من عملاء إيران وهو موقف بمثابة ضوء أخضر لتشجيع وتأييد السفارة العراقية. إن مكتب الأمم المتحدة في الباكستان كان له دورا قذرا في معاقبتي وتأمين الطريق للسفارة العراقية بمواصلة إجراءات تصفيتي. فمثلا وصلت الى الباكستان في شهر آب 1987 ووصل مئات اللاجئين من العراقيين والإيرانيين من بعدي بعام أو عامين وثلاثة أعوام فتم قبولهم كلاجئين ثم تمَّ تسفيرهم الى دول أوروبا خلال أقل من عام أو أكثر يقليل أو خلال عامين أما أنا فبقيت قرابة الستة أعوام تخللتها حالات الموت والإختطاف والمتابعة. واحد من اللاجئين إسمه ناصر إيراني الجنسية إشتكى في التحقيق الذي أجراه معه موظف في المفوضية أنه غادر إيران بسبب منعه من إرتداء قميصه (النص ردن). فاعتبرته المفوضية حالة ضغط على الحريات، ومنحته السفر، أما قاسم الكفائي فأمره أهون بكثير.
    في عام 1992 كما أتذكرالتقيتُ بالمترجم (فوق العادة) إسمه شريف ولد وتربى في مصر، من أب باكستاني وأم مصرية في بناية البنك لاستلام راتبي، كان يحضر كعادته معنا نحن اللاجئين كل شهرليساعدنا على إستلام رواتبنا. بعد التحية والإحترام قلت له ولأول مرة بعد إن حسبتها جيدا وعرفتُ أن كلمتي ستكون مؤثرة على عقول من يهمهم الأمر في مكتب المفوضية... إسمع يا أخي شريف من فضلك بلِّغ من يعنيهم أمري في مكتبك بأن قاسم محمد ليست بعميل لإيران، أقولها لك أول مرة بعد سنين الموت والحصار منكم ومن السفارة العراقية. على الفور قال لي أكتب طلبا لضابط السفر تسأل فيه حول سفرك. قلت له ليس عندي قلم ولا ورقة قال أكتب على أي قصاصة مهما كان شكلها. ذهبت الى موظف البنك واعطاني ورقة، أما القلم أخذته من شريف. كتبت سطرين تقريبا واستلم شريف الورقة (التعبانه). لم يتأخر الجواب أكثر من إسبوعين حتى وردتني رسالة من المفوضية السامية تفيد بضرورة مراجعتي السفارة الكندية. على موعدها دخلت السفارة الكندية وتم إجراء التحقيق السريع معي وكنت أشعر بالمحقق متوجسا مني، وغير جادٍّ في معي في تحقيقه. بعد أقل الشهر إستلمت رسالة رفض من سفارة كندا، فهي ليست أكثر من مسرحية ما بين المفوضية والسفارة غرضها مراقبة وضعي بشكل عام وانتظار ما يقع عليّ من خطر. بعد عام تقريبا وصلتني رسالة ثانية بضرورة مراجعة نفس السفارة وتمّ قبولي. سفارة كندا منحتني وثيقة تتعلق بالهجرة الى كندا وهي وثيقة مهمة جدا كتبوا عليها نوع الجنس (أنثى). أخذت هذه المعلومة على محمل الجد. الطريف بالأمر أنا لم أثر هذا الخطأ المتعمد مع أي دائرة من الدوائر الكندية المعنية أبدا، وهم كذلك لم يشروا اليها أبدا والى اليوم. من الإجرائات القذرة التي كان مكتب المفوضية يتعامل بها لمحاربتي نفسيّا أنا العميل لإيران، ذات يوم طلبوا حضوري للمكتب ولما قابلتُ المترجم (فوق فوق العادة) مازن من أصول فلسطينية أبلغني بأن ضابط أمن المفوضية مقتنعا بمحاولة الإختطاف التي جرت عليَّ في كراجي يوم 30 نوفمبر 1989 ويلزمني الإستعداد للسفر الى الدنمارك وستردني النتائج لاحقا. خرجت منه ولم أسمع منه ثانية فدامت مدة إقامتي في الباكستان حوالي ستة سنين. هكذا عشت في المغترَب الباكستاني أمشي حافيا على دروب الموت. الى حلقة ستة عشر قادمة. 

    قاسم محمد الكفائي 
    Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada





      
     
      

    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media