دروبُ الموت (16)
    الأثنين 5 يوليو / تموز 2021 - 07:59
    قاسم محمد الكفائي
    محاولة قتلي في المكتبة البريطانية
    دائما يبحث جهاز مخابرات الدول المتفوقة بكفائتها بالبحث عن الظروف الملائمة جدا لتنفيذ مهمة إقتناص ضحاياه وسط حالات الصخب الإعلامي والسياسي الذي يشغل العالم بسبب حادثة تهتز بها دوائر الإعلام والدولة تشغل المجتمع العالمي، وتضيع فيه الحوادث التي لا تشكل أهمية قصوى لدى الأوساط الدولية أوالمحلية التي تقع عليها مُهمة التنفيذ. هذا اللون من الإنجاز يعتبر ذكيا وناجحا حين يكون الضحية غير محسوب على أوساط السياسة العالمية والدبلوماسية.
    كنت في حينها أستشعر الخطر الذي أتجاوز فيه بتحليلاتي خطوط الموضوعية كي أضمن الحد الأدنى منه بغرض سلامتي. كنتُ ولسنين في كل يوم تقريبا أذهب الى المكتبة البريطانية (British council Library)التي تقع في سوق ميلودي خلف دائرة بريد إسلام آباد المركزي (Genaral Post Office)، فهي مكاني المفضل الذي أجد فيه راحتي وأستشعر الأمان، ومع هذا فأنا على حذري، أترقب الوجوه الباكستانية التي تدخل اليها، أو تجلس على مقربة مني، لكنني أتحرك بسلوكي هذا بشيء من الهدوء ودون اكتراث يؤثر على وضعي العام، ويبقى المكان آمنا ومريحا فهو أفضل بكثير من الذهاب الى YMCA التابع للمفوضية السامية للامم المتحدة حيث ملتقى العراقيين لممارسة الرياضة أو تعليم اللغة الإنجليزية، فهو ملتقى المشاكل والعنف والجهلة والتربص بالآخرين، كذلك أفضل من المقاهي التي يلتقي فيها الكثير من العراقيين ممن همهم الشجار والقذف بالكلمات الرخيصة أو باليد، أوتأليف قصص الدعاية لضرب بعضهم ببعض، الذي حسبناه أكثر خطورة علينا من عمل السفارة العراقية. بقيت سنينَ معدوداتٍ على هذا الحال أنقطِع أحيانا شهورا أقضيها بعيدا عن العاصمة لأكثر من 500 كم محتميا عند جماعة بحكم الصداقة مع وجهائهم تدعي أنها إسلامية لكنها مرفوضة من قبل عامة المسلمين، وأعود اليها من جديد، ملتزما بمجيئي ورواحي الى المكتبة خصوصا عندما سكنت قريبا منها. في يوم31 تموز 1990 قبيل الظهر كعادتي دخلت الى المكتبة البريطانية التي لا تبعد عن محل سكناي أكثر من خمسة دقائق مشيا. تصفحتُ فيها عددا من الصحف. فاجئني بعد أقل من ساعة المدعو (باسم عابدين) وهو لاجىء عراقي (حاليا في فرنسا) جلس الى جانبي وتقرب إلي بحيث لا تفصلني عنه أية مسافة. سألني عن أحوالي وتحدث إلي قليلا بهدوء وفمه قريبا الى أذني لأن الصوت العالي غير مسموح به في ذلك المكان، نسيت بالضبط معنى الحديث لكن القصد عنده هو أن يحيطني بشيء من الغفلة والإسترخاء، ثم فاجئني بقوّة، (أبو محمد دير بالك هذا بالسفارة العراقية). أومىء بنظره وحاجبيه على شاب كان يتصفح الكتب المُسطرة على الرفوف، ولما نظرت الى الرجل مد (باسم) يده اليمنى على بطني، كنت منتبها عليه قبل انتباهي على ذاك الرجل. نطقتُ  بصوت خافت يوحي الى الصراخ (ولك). في يده دبّوس متصدءً (زنجار) كانت أمهاتنا تستعمله وتسميه (زرار) كبيرا غيرعادي أي بطول الإصبع كاد أن يغرس جزءً منه ببطني. لما سألته عن الذي بيده وأنه متصدِّءً وقديم أعاد الكرَّة ووجهه نحو جسمي وقال (شبيك أتشاقه وياك). شعرتُ بالرُعب حقا، وليس عندي من حل سوى أن أغادر المكان على الفور مع أخذ الحيطة خارج المكتبة. كانت تلك المحاولة سهلة ومكللة بالنجاح لو أنه غرس رأس الدبوس المسموم في جلدي فهو يكفي لقتلي خلال ساعة أو ساعتين. في هذه القصة يمكننا أن نطرح تساؤلات كثيرة حولها ونكون دقيقين عندما نتعرف على شخصية باسم عابدين بأدق تفاصيلها...شخصية متزنة، هادئة، غامضة وكأنها تتحرك باحترافية ومسؤولية، يستحيل علينا نحن اللاجئين أن نراه يوما خارج عمله أو نراه في أماكن ترفيه أو علم وغيرها، حتى المكتبة البريطانية التي جائها في ذلك اليوم لم أره فيها ولو مرة واحدة بينما أنا من روادها لسنين دون انقطاع باستثناء سفري خارج العاصمة. وباسم عابدين لا يحمل الدبوس متصدأً بيده ويمازحني في ذلك المكان المحترم خلال دقائق من جلوسه دون مبرر طبيعي على الإطلاق. هذا العمل لم نرَه عند باسم، فهو لن يمازح بهذه الطريقة، ولن يتفوه يوما بكلمة مخابرات أو سفاره وما شاكلها. رجل غامض بامتياز، وعقله أكبر من حجمه. ما كنا نتجاوز العشرة أشخاص من الذين هم على قمة المعارضين العراقيين في إسلام آباد وراولبندي نثق ببعضنا البعض ونتابع الكثير من قضايا اللاجئين لأسباب هامة منها التصدي لعمل السفارة العراقية وتحجيمه. كان من بيننا الأخ عبد الأمير ناجي مطرود (أبو أمل في الدنمارك حاليا) الذي يُعَدُ أيقونة اللاجئئين المعارضين في الباكستان وله الفضل في عمل كثير من النشاطات ضد نظام صدام حسين على ساحة العاصمة إسلام آباد. حاولنا الكثير لمعرفة بعضا من حقيقة باسم عادين فلم نستطع في الآخر نعته أخي أبو أمل (بالتمساح) ، إذ ليس له أمانا وأشبه بالزئبق.أما تحليلي عنه فهو واحدٌ من أنجح العملاء الذين صادفوني في الباكستان. من ذكائه المتميز به أنه الوحيد بين العراقيين الذي يجيد اللغة الأوردية بدرجة جيد جدا بحيث عمل (عرضه حالجي) لسنين في منطقة (آباره) في إسلام آباد. ولما سافر الى فرنسا عاد الى مدينة كراجي بعد أشهر بمهمة لا أعرفها، إلاّ أنه على علاقة بجميع العناصر التي تعمل لصالح المخابرات في القنصلية العراقية في كراجي، فعودته أمرعجبا لم يفعله غيره من اللاجئين بالمطلق. أما مسألة شغله (عرضه حالجي) فأنا أعتقد أنه محطة إلتقاء ببعض العناصر من الذين توكل اليهم المهام من الباكستانيين.، فهو يأخذ من هذا ويعطي ذاك، وحالة رصد ناجحة عندما نلتقي به كل يوم في مقر عمله لأن المقهى التي نجلس فيها على مقربة منه. 
    فلما تخلصت من عملية الدبوس بفضل الله وخبرتي عرفتُ فيما بعد أن الأسبوع الذي توجهت به عناصر مخابرات السفارة العراقية لقتلي في المكتبة البريطانية كان موسما مناسبا لتصفية الكثير من المعارضين الذين هم مسجَلين على قائمة الإغتيال، والمهني أو الخبير العارف بقضايا وأسرار عالم المخابرات يفهم جيدا أن أجهزة الإغتيال في العالم تتحين الفرص المناسبة لاصطياد ضحاياها (كما ذكرنا سلفا). هذه الفرص تشبه ضرطة عنز في سوق الصفاير، تضيع ويضيع فيه فاعلها. بعد يومين فقط أعلن راديو وتلفزيون العراق، أي 2 آب إحتلاله لأراضي الكويت وقد غطى صخب هذا الحدث الكبير كل جريدة وراديو وتلفزيون في العالم. فربطتُ عملية الدبوس بذاك الحدث ويا ليتني أتعرف على عدد وأسماء الضحايا ممن طالتهم يدُ المخابرات العراقية حول العالم في ذاك الأسبوع الذي صار فيه الكويت المحافظة العراقية رقم 16. 
    الى حلقة سبعة عشر قادمة.
    قاسم محمد الكفائي 
    Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada


     



    © 2005 - 2024 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media