(دروبُ الموت 17) مغادرتي سجن كويته وقصة مذحجي
    الأربعاء 18 أغسطس / آب 2021 - 17:03
    قاسم محمد الكفائي
    أطلق سراحي من سجن كويته المركزي أنا عادل مصطفى حسين ومعي ماجد إسماعيل محمد كردي من السليمانية عاش حياته في بغداد وكما ذكرناه في إحدى حلقاتنا أنه صعد الى البرلمان العراقي فأصبح فيه عضوا، ولبس العمامة وصار عالما دينيا ومغتيا في مسجد السليمانية الكبير(الحمد لله) واسألوني عنه قبل أن تفقدوني. أما خالد من بغداد العاصمة أصلا فبقى في السجن على أمل تسفيرة إما الى إيران أو الى العراق لو رغب ذلك لأن مكتب الأمم المتحدة رفض قبوله كلاجىء بسبب شجاره مع سجين كردي عراقي شق وجهه بشفرة حلاقة كان يخفيها في يده. كان ذلك الشاب طيب جدا لكنه صار ضحية بعض الخبثاء من زملائه الأكراد الذين افتعلوا الشجار مع خالد ثم انسحبوا كون الأخير (النرجسي المزاج) كان جريئا ولا يهابهم (ما فهمته عنه فيما بعد أنه عاد الى إيران).
    عادل مصطفى حسين هذا الإسم الثلاثي كنت قد اخترته ساعة اعتقالنا على الحدود من قبل الشرطة الباكستانية قبل بلوغنا مدينة كويته بينما إسمي الحقيقي مثبت لدى مكتب الأمم المتحدة في كراجي وإسلام آباد وقد منحوني اللجوء على ضوئه أوّل مرة عام 1987، لكن الضرورة القصيرة الأمد جعلتني أتصرف كحل آني يجب اتباعه. وصلنا الى العاصمة إسلام آباد وراجعنا مكتب الأمم المتحدة لغرض إجراء اللازم. في هذه المحطة تغير الواقع القديم الى واقع آخر بزيادة عدد اللاجئين من الذين لا يستحقون كلمة لاجىء سياسي أو إنساني فكثيرة مصائبهم التي خلفوها في الباكستان. فكانت عودتي الى إيران تعني لدى مكتب الأمم المتحدة والسفارة العراقية هي عودة جاسوس إيراني إنقضت مهمته في الباكستان، أما الجانب الإيراني فهو متأكد بالمطلق أن عودتي متخفيا الى إيران تعني لهم حالة خطرة لمهمة أخطر حملتها على أكتافي بمهنية عالية لغرض إنجازها في الداخل الإيراني، لكن في ذات الوقت لم يصادفني شريفا يسألني عن حزني ويشاركني همي لفراق أطفالي الثمانية، ولا عن مصيرهم ومصير والدي وكل عائلتي حيث كانوا أشبه بالرهائن لدى المؤسسة الأمنية في العراق. فصرتُ في الغربة كالكرة تتقاذفني رفسات اللاعبين المحترفين على ساحة ملعب ليس فيه رحمة ولا إنسانية.
    في أواخرعام 1988 توافدَ الكثيرمن اللاجئين العراقيين على إسلام آباد كما أسلفنا وأقل منهم عددا هم اللاجئون الإيرانيون. فكان من بينهم لاجىء إيراني إسمه محمود جعفري مذحجي (أبونجمة) كان سجينا معي في العام 1986 في سجن إيفين بطهران (راجع حلقاتنا دروب الموت). رجل لم يبلغ الأربعين من أصول عربية تسكن منطقة الأهواز، لكنه عاش حياته في طهران وتزوج فيها من إمرآة إيرانية، لغته العربية هشّة فهو شاعر باللغة الفارسية وله ديوان شعرصغير(مطبوع). كذلك له الإطلاع في قضايا الأدب والثقافة العامة، حال وصوله إسلام آباد منفردا التقيته بالصدفة قرب مكتب الأمم المتحدة. رحبتُ به أشد ترحيب ونام عندي أسابيع حتى لحقت به زوجته. استأجرنا بيتا وعشت معهما شهورا في مدينة راولبندي أعتقد منطقة دهوك كشميريان، كان هذا من أجل الأمان والسلامة. ما تميز به محمود أنه لم يَسىْء الى نظام بلاده ولو بحرف أو كلمة إطلاقا كما يفعل البعض، فكان منضبطا، وكأنه يحمل هم مستقبله قبل أن يكون بطل سياسة. 
    في يوم كعادته ذهب الىYMCA  في منطقة بضواحي العاصمة أعتقدإسمها F10 لتعلم اللغة الإنجليزية أو ممارسة الرياضة بينما هو يمشي في طريقه لحقت به سيارة خصوصي وإذا بسائقها يفزع من أجل محمود عندما رآه ماشيا في القيض الشديد، بادره.. (تفضل يا أخي إصعد لأساعدك). يقول محمود، فرحتُ وصعدتُ الى جانبه فحسبته يرجو الثواب. سأله السائق عن أصله وأصوله ولما عرف به عربي صرخ يا الهي أنا مثلك عربي من العراق، أرجوك دعنا نلتقي...وطال بهما الحديث فأعطاه رقم هاتفه بغرض الإتصال ولو إحتاج لأي مساعدة فهو جاهز. نزل محمود من السيارة أمام مقر YMCA ظنا منه أن الأمر سهلا وطبيعيا. لكنه عاد وصادفه بعد أيام وطلب منه الصعود ففعل. في طريقهما لنفس المكان تحدث له عن عمق العلاقة بين العراق وعرب (الأحواز-هكذا نطقها سائق السيارة)الذين هم من أصول عراقية وأن القيادة السياسية في العراق وعلى رأسهم السيد الرئيس صدام حسين مهتما بهم أشد اهتمام. محمود يستمع ولن يعترض على كل ما جرى من حديث لأنه عاقل ورزين. ثم بادره الرجل صاحب السيارة... أين تسكن ومن يعيش معك الآن؟ أجابه في راولبندي ويعيش معي شخص عراقي إسمه قاسم. فقال ذاك الرجل دعني أكون معك أكثر صراحة، هذا قاسم الذي إسمه الكامل كذا هو عميل لإيران فاحذر منه لأنك معارض الى النظام الإيراني فهو الآن يخطط ضدك، ولكن عليك العمل على صده بمساعدتي عليه فأنا موظف أعمل في السفارة العراقية ورقم تلفوني كذا .. كتبه مرة أخرى وسلمه الى محمود (هذا هو العمل الفاشل الذي ترتكبه مؤسساتنا في بعض دولنا الشرق أوسطية، عندما تمارس مسؤولياتها بمهنية في الشكل مغلفة بالكبرياء الرخيص بينما ضاعت عليه أن محمود قد يعمل لصالح بلده إيران حتى وإن كان سجينا فيها بمجرد أن اعتمد على المعلومات التي قدمها أحد المترجمين في مكتب اللاجئين من المتعاونين مع السفارة العراقية مثلا). ولما أحس بانسجام محمود طلب منه أمرا لن يطلبه من غيره وله ما يريد، كان كل ما جرى هو النيل مني، وافق على كل ما طرحه وبسرور. جائني محمود وقد ظهر عليه شيىء من الذعر وأبلغني بالقصة كاملة من الألف الى الياء ، ثم سلمني رقم الهاتف المكتوب على قصاصة ورق بالحبر الأخضر. فتحدثنا بإسهاب وبالتحليل الدقيق عن كل ما وردَ بهذه القصة وكيف أن كل ما قام به الطرف الآخر كان مقصودا ومدروسا وأنها نتيجة متابعة دقيقة وليست مصادفة. كان محمود ذكيا دون أن يُظهر ذكائه ويتفهم الحقائق بشيء من الخلق والهدوء وحسم النتائج بتأني. أنا الآن مدان الى هذا الرجل لكن صروف الدهر منعتني عن أداء الواجب ورد الجميل لموقفه الرائع. في تلك الظروف العصيبة كان الناس أغلبها وحوش كاسرة، لا تعرف غير المال مذهبا، يصعب على الآخر أن يجدَ كمثل هذا الرجل لمواقفه النبيلة.
    محمود جعفري مذحجي إتفق معي على أمر واحد هو أن أحذر بما فيه الكفاية وأن لا أسأله مرة أخرى عن أخبار هذا الرجل لأنه سيعالج الأمرعلى طريقته. إفترقت عنه فبقيت في راولبندي وانتقل هو الى إسلام آباد قريبا على المدرسة التابعة الى مكتب المفوضية، فكنت التقيه دائما ولم أجرىء على توجيه أية سؤال له بخصوص هذا الأمر كونه بدأ معي بصدق الرجل وانتهى منه بشرف ووفاء الصديق حتى سافر الى هولاندا ومعه زوجته وإبنته نجمه ويسميها أحيانا ستاره. شكرا لك أخي محمود. الى حلقة ثمانية عشر قادمة.

    قاسم محمد الكفائي Twitter…………Qasim.ALkefaee.canada


      




     

    © 2005 - 2025 Copyrights akhbaar.org all right reserved
    Designed by Ayoub media